مقالات

معالم من تاريخ السودان السياسي: (1821-2021)- (1)

بقلم/ د.عبد الكريم الهاشمي:

1
وضع غوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر نظرية التأطير التي تقوم على فكرة السيطرة على العقول ومن ثم تمرير السياسات والرغبات والتحكم في إتجاهات الافكار وذلك من خلال جعل ﻋﻘﻠﻚ ﻳﻨﺤﺼﺮ ﻓﻲ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﻣﺤﺪﺩﺓ تفرض ﻋﻠﻴﻚ ﻻ ﺇﺭﺍﺩيا، تمنع ﻋﻘﻠﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺤﺚ في ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺕ الأخرى ﺍﻟﻤﺘﺎﺣﺔ. إن المتأمل للواقع ابسوداني يجد ان كثير من التنظيمات السياسية والآيدلوجية تحاول جاهدة انتهاج اسلوب غوبلز في تأطير عقول الشباب وتحديد خياراتهم من أجل السيطرة عليهم وجعلهم أمام خيارات محدودة تنحصر بين “إما Either” و “أو Or”. مستقلة القصور الكبير في الرصيد الفكري والمعرفي لديهم وجهلهم بالحضارة الراسخة والتاريخ التليد لوطنهم فأطرت خياراتهم في ثلاثين عاما من التاريخ السياسي للسودان فصارت هذه الثلاثين هي إطار خياراتهم إذا ما تطرق الحديث للأحزاب وهي إطارهم إذا ما تحدث الناس عن النضال والتضحيات وهي إطارهم إذا حدث تضاد في الآراء. إن أسوأ نتائج هذا التاطير هو إزدراء بعض الشباب لتاريخ اسلافهم ووصمهم بالفشل وغياب الرؤية وإنكار تضحياتهم في إرساء دعائم دولة السودان. إن التأطير الذي تمارسه التنظيمات السياسية والآدلوجية تجاوز الخيارات المحدودة من صفحات التاريخ والإعتزاز به واخذ العبر منه الى إلغائه أو السخرية منه وعدم الإحتفاء به. إن ملامح التاريخ القديم هي التي تمكن الاجيال اللاحقة من تحديد ملامح حاضرهم وهويتهم الحالية فمعرفة الانسان لتاريخه وهويته هي اكثر الاشياء التي تساعده في تحديد إتجاهات المستقبل الذي يخطط له والافكار التي يريد ان يعتنقها. إن قراءة التاريخ وفهمه يعطي القدرة على توظيف الماضي والحاضر معا للاستفادة منهما في بناء مستقبلا مزدهرا وذلك لأن التاريخ يعتبر مستودع للخبرات والتجارب الإنسانية ومعينا ملهما للإنسان في افعاله وتفكيره بل يعد من أهم الدعائم التي تعتمد عليها المجتمعات في نهضتها وتطورها وإنحطاطها وتخلفها. إن ما يشهده الراهن السياسي السوداني من تخبط وعشواء وقصر في البصر وقصور في البصيرة يدل على عدم تعلمنا من تاريخنا وتجارب اسلافنا السابقة سيما الشباب فإن الكثيرون منهم يجهلون تاريخ وطنهم بل يحتفون بحضارات وموروثات امم أخرى والادهى ان بعضهم يبتذل ويذدري تاريخ بلاده كما يعانون فقرا مدقعا في تاريخ الحركة الوطنية السودانية بل جعلوا الحقب التاريخية السابقة مشجبا للإنتكاسات والخيبات التي تحيق بهم وتعصف بمنتوجهم المتواضع. تحاول هذه المقالات ان تبرز معالم اساسية ومحطات رئيسة في تاريخ السودان حيث توفر الحد الادنى من المعرفة المطلوبة لكل سوداني يفخر بوطنه ويباهي به الأمم سيما الشباب الذين يتطلعون لخوض غمار السياسة.
2
تكون السودان بحدوده الحالية حديثا فلم يتجاوز تكوينه القرنين من الزمان أما السودان الأرض والإنسان فهو موجود منذ فجر التاريخ وعلى ارضه قامت حضارات وتساكنت قبائل ونشأت ممالك وسلطنات مثل مملكة المقرة وعلوة ونوباطيا ومروي والشايقية والجعليين والسلطنة الزرقاء وسلطنة الفور. كانت اول دولة نشأة في السودان في العهد القديم هي مملكة “نبتة” بالقرب من جبل البركل وكان ذلك في الفترة (735 ق م – 350 ب م) وأشهر ملوك هذه المملكة “بعانخي” الذي حكم السودان ومصر.
يعتبر العام 1820م هو العام الذي يؤرخ لنشأة السودان الراهن وهو العام الذي شهد الغزو المصري التركي او العثماني للسودان. قاوم السودانيين الغزو التركي المصري ببسالة وضراوة ولكن تمكن الغزاة من الإنتصار بفضل الاسلحة النارية حتى أطاح بمملكة سنار “السلطنة الزرقاء” وكان ذلك في العام 1821م حيث اجتاحت جيوش محمد علي باشا السلطنة الزرقاء التي كانت تسيطر على الجزء الأوسط من السودان وسقطت عاصمتها سنار في أيدي الغزاة وانتهت بذلك سلطنة الفونج التي حكمت السودان لاكثر من ثلاثمائة عام في الفترة (1504-1821م).
3
بدأ العهد التركي وأصبح السودان النيلي من النوبة شمالا إلى التلال الأثيوبية جنوبا ومن نهر عطبرة شرقا إلى دارفور غربا جزء لا يتجزأ من إمبراطورية محمد علي باشا وتحت ولواء الخلافة العثمانية حيث نقل محمد علي العاصمة من سنار إلى مدني ثم أتى عثمان باشا الذي أعجب بالمنطقة التي يقترن فيها النيل الأبيض بالأزرق فبنى قلعة ووضع فيها الجند وكان ذلك سنة 1824 واتخذها عاصمة له. تلك كانت بداية مدينة الخرطوم التي ازدهرت وسكنها 60 ألف نصفهم من المصريين واليونان واللبنانيين والسوريين وعدد من الأوروبيين. قسم محمد علي باشا السودان وفقا للنظام الإداري التركي إلى ستة مديريات هي دنقلا بربر الخرطوم سنار كردفان وفازوغلي ثم لحقت بهم مديرية التاكا في الشرق ليصبح عدد المديريات سبعة ثم ضمت مديرية.
قام الزبير باشا حاكم بحر الغزال في عام 1873م بغزو دارفور وضمها لسيطرة الخديوي ثم إستكمل الخديو إسماعيل فتوحات الغزو التركي للسودان واستطاع ضم المناطق الاستوائية حتى أوغندا وذلك في العام 1875م وبهذا يكون السودان بحدوده الحالية قد خضع للحكم التركي المصري وقتذاك. إشتهر العهد التركي بالضرائب الباهظة ولم يهتم كثيرا بتطوير الإدارة والتعليم بالرغم من انهم فتحوا اول خمسة مدارس في السودان في المدن الكبرى كالخرطوم ودنقلا والأبيض وبربر وكسلا. من اكبر الاحداث التي شهدها عهد الحكم التركي مقتل إسماعيل باشا على يد المك نمر ملك الجعليين والذي يعتز به السودانيون كثيرا بل تغنوا له .كذلك المجازر البربرية الإنتقامية التي نفذها الدفتردار على إثر مقتل إسماعيل باشاء. هذه إضاءة مقتضبة عن الحقبة التركية في السودان التي تعتبر البداية الحقيقية لتشكيل السودان الحالي بحدوده المعروفة حيث استمر العهد التركي في حكم ابسودان لأكثر من ستون عاما (64 سنة) هذه المعلومات المقتضبة تعتبر مقبلات تحفز الراغبين في الحصول على المزيد من الاحداث المثيرة التي شهدتها تلك الفترة.
4
إستمر الحكم التركي المصري لفترة ستة عقود ونيف(64 سنة) إلى أن إندلعت الثورة المهدية في اغسطس 1881م كحركة دينية تسعى للتحرر الوطني من قبضت الاستعمار الاجنبي حيث غدا السودان بأسره تحت سيطرت جيوش المهدية في اغسطس 1884 ولم يتبقى إلا الخرطوم التي كانت تحت سيطرت “شارلس جورج غردون” آخر حاكم عام للسودان في العهد التركي المصري حيث استطاعت قوات الثورة المهدية أن تسترد الخرطوم في السادس والعشرين من يناير عام 1885م وأن تقضي على حكومة الاحتلال وتلحق الهزيمة بجيوشه وإستطاعت ان تقتل “غردون باشا” وبهذا يكون قد إنقضى حكم الاتراك وجباة الضرائب.
الجدير بالذكر ان “غردون” لم يكن تركيا ولا مصريا إنما كان ضابطا وإداريا في الجيش البريطاني إستعانت به الخديوية المصرية ودخل في خدمة الخديوي بموافقة الحكومة البريطانية في العام 1873م وأبتعث للعمل في السودان ثم أصبح لاحقاً الحاكم العام للسودان. يعتبر غردون صاحب مسيرة عسكرية طويلة ومظفرة حارب فيها غوردون على جبهات عديدة رافعا لواء الإمبراطورية العظمى مما جعل مقتله في الخرطوم موجعا للبريطانيين وهذا ما جعلهم يفكرون في احتلال السودان إذ كان غوردون أحد أهم ضباطهم.
قامت على أنقاض دولة الحكم التركي المصري دولة سودانية هي الدولة المهدية التي ورثت الكثير من مقومات الدولة الحديثة من العهد التركي حيث إستمر حكمها حتى العام 1898م إذ دامت فترة حكمها (13 سنة).
من العوامل التي ساهمت في نجاح الثورة المهدية السخط الكبير الذي كان يسيطر على الجماهير نتيجة للضرائب الباهظة وإلى عدم رضا بعض زعماء الطوائف الدينية وسخط الجند ايضا حيث مثلت المهدية عامل إحتجاج تمسك به الجميع ضد النظام الذي اذاقهم الامرين لإنقاذهم من حالة البؤس واليأس التي تردى فيها الشعب. إستمدت الثورة المهدية قوتها من عنصرين الاول عنصر روحي ديني والثاني عنصر ناجم من سوء الإدارة الحكومية.

Krimhashimi5@gmail.com
0912677147

نواصل..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق