منوعات وفنون

في حضرة صاحب “نار المجاذيب”

أفئدة الحروف.. "5"

د. عمر آدم قبله:

قلت عند إستهلال هذه التدوينات إن فكرة أفئدة الحروف هي الاهتمام بعمق الدلالات الكلية التي يحملها مطلع القصيدة أو يبرزها بيت واحد في ثنايا تمددات النص الشعري أو تجلياته بحيث يستشف القارئ ملامح المضامين المجملة لمراد القصيدة وذلك على طريقة (عصاة التوية) في إختزال المشهد الجمالي في صورة نظم ثنائي بالغ الثراء من حيث الرمزية والإيحاء. ولكن مؤانسة اليوم هي محاولة لإستشراف عوالم شاعر السودان الكبير “محمد المهدي المجذوب” في التصوير والتنقل السلس من معنى الى آخر عبر المفردة الرصينة و القوالب الشعرية الجاذبة.


وقد لا تخلو محاولات السمر والسياحة في شعر المجذوب من الصعوبة والتعقيد وذلك لتمدد شعر المجذوب في اتجاهات متعددة من ضروب الشعر وتصنيفاته الفنية سواء كان ذلك من حيث الاغراض أو مناهج النظم وبناء القصيدة. يضاف الى ذلك وفرة انتاج الشاعر الذي يقارب العشرة دواوين يتصدرها وفق الترتيب الزمني ديواني “نار المجاذيب” و”الشرافة والهجرة”.

ولنفترع هذه التدوينة بالتوقف عند بعض ابيات القصيدة الأكثر تداولاً لقربها من المزاج السوداني العام والتي حظيت بحضور إعلامي باهر كواحدة من عيون قصائد الفصحى التي تغنى بها المطرب الراحل ذائع الصيت عبدالكريم الكابلي كقامة فنية وافرة الحضور في الوجدان السوداني.
صلٍّ يا ربٍّي على المدثر
هكذا ابتدر المجذوب قصيدة المولد. والمولد موسم يخصصه السودانيون كليا للسيرة النبوية وبهذه الافتتاحية ينسرب الشاعر بصورة مرنة وبارعة لوجدان المتلقي وشد انتباهه. فالصلاة على المصطفى في السودان عنوان حياة راتب ومعتاد و محبب للنفوس لا يغيب عن اي مجلس سوداني ايا كانت مكانته ومقامه من ذكر الصلاة والصلاة علي الرسول. فتوافقات البيع والشراء ورجاءات فض النزاعات ومصالحات المتخاصمين والدعوة لموائد الطعام وكل مايتعلق بتطييب وجبر الخواطر تكون واسطة العقد فيه الصلاة على الرسول. (صل على الرسول), (صل على محمد) ,(صل على النبي).

ولذلك فقد كان استهلال القصيدة بهذا المدخل التلقائي الاثير عند المتلقى غاية في التوفيق. وربما يكشف هذا عن خبرة الشاعر ومعرفته باسرار العبور السهل والمرن الي الوجدان الجمعي السوداني فاختار هذا المدخل الشفيف اللطف والمحفوف بالإيحاء والدلالات الرمزية. فالصلاة على الرسول عند اهل السودان مبعث طمأنينة ومفتاح توافق.
صل ياربي على المدثر*** وتجاوز عن ذنوبي واغفر
واعني يا إلهي بمتاب اكبر***فزماني ولع بالمنكر
ويبدو الشاعر هنا كأنه في خلوة ذكر وصفاء ومناجاة مشغول بنفسه وهمه الروحي الخاص ولكنه ينتقل فجأة الي دنيا الناس من حوله ثم ينتقل مباشرة الي رحابة العالم وهموم بقاء الجنس البشري والامن والسلام وكأنه يعتذر الي ربه إنابة عن الاخرين.
درج الناس على غير الهدى وتنادوا شهوات…وتعادوا وتمادوا
لايبالون وقد عاشوا الردى … جنحوا للسلم ام ضاعوا سدى

ثم يستشرف افاق المستقبل بترقب هل تتجه دنياه الخارجة للتو من آثار حرب مدمرة وطاحنة الي فجر تسود فيه حرمة المواثيق الدولية المهتمة بقيم الخير وبناء قواعد الالفة والمحبة والسلام بين الناس.
أيكون الخير في الشر انطوى…والقوى قد خرجت من ذرة هي حبلي بالعدم
اتراها تقتل الحرب وتأتي بالسلم
ويكون الضعف كالقوة حقا وذماما سوف ترعاه الامم
وتعود الارض حبا وابتساما
هكذا الارض كلها… إنه فعلا حلم شاعر… وهو حلم مشروع…. ولكن مغالبات الخير والشر لاتزال قائمة مابقيت للناس حياة وفقا لما تبديه وقائع الحاضر المعاش.
وكعادته في الانتقال يلتفت المجذوب فجأة الي وطنه وحلقة الذكر.
ربي في موطني المؤمن قد عدنا اليك … ما اعتمدنا ربنا إلاعليك
وذكرنا الهادي المختار ذكرى … ملأت ارواحنا خيرا وطهرا

ويتمدد الشاعر في مقامات التدبر والتفكر والمناجاه ليعود بوجدان التصوف وذائقته الي مصدر النبع ومبتدأ الرحلة.
صل ياربي علي خير البشر
الذي اسرج في ليل حراء… قمرا ازهر من بدر السماء
يقرأ الناس علي اضوائه… حكمة الخلق واسرار البقاء
من إله قد هدى بالقلم … علم الانسان مالم يعلم
ثم ينداح بسلاسة ورفق الي ميدان المولد وحركة الناس والطبول وليلة الختام.
ليلة المولد يا سر الليالي … وربيعا فتن الانفس بالسحر الحلال
موطني المسلم في ظلك مشبوب الخيال… طاف “بالصاري” الذي اثمر عنقود سنا كالثريا
ونضي عن فتنة الحسن الحجابا… ومضي يخرجه زيا فزيا
وزهى ميدان عبدالمنعم … ذلك المحسن حياه الغمام
وجموع تلتقي في موسم من كل عام … والخيام قد تبرجن واعلن الهيام
ثم ينتقل لتصوير مشهد اكثر تفصيلا لواقع أهل الذكر.
فهنا حلقة شيخ يرجحنٌ … يضرب النوبة ضربا فتئن وترن
ثم ترفض هديرا او تجن
ويعرض المشهد في صورة ربما اكثر حيوية:
وتدانت انفس القوم عناقا …واصطفافا …وتساقوا نشوة طابت مذاقا
ومكان الارجل الولهى طيور… في الجلابيب تثور…وتدور
ولنختم هذا الانس ببيت هو أقرب لمطلع القصيدة وليقينيات الشاعر و وجدانه الصوفي في هذا المقام:
صل ياربى علي المدثر واعني وانصرِ… بشفيع الناس يوم المحشر
الذي يسقي صفاء الكوثر

وكل عام والجميع بخير،،، ودمتم في حفظ الله.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق