سياحة وآثار وتراث

قبر النجاشي

العربة تسير ببطء وحذر وسط القمم الصخرية التي تذكرك بالغيلان والسعالي، البرد ينخر في العظام، نستعين عليه بجرعات من العسل وقناديل الذرة الشامية المشوية على الجمر، مسيرة نهار من أديس أبابا قطعنا فيها حوالي 820 كيلومترا.
السحب المتراكمة المتراكبة تحجب الشمس والشمس تحاول اختراق السحب في عناد دؤوب يشبه دأب النمل.


من بين القمم والسحاب أطل شعاع ملأ الكون ضياء، لمعت كرة ذهبية في الأفق البعيد، مرافقنا الدكتور نقا أشار إليها وقال نصب الشهداء، سرنا قرابة العشرين كيلومترا لنصل مدينة مغلي عاصمة الإقليم. مدينة حديثة تم تجديدها تماما، تحتشد فيها مؤسسات الدولة في مبان ذوات معمار جميل، الكوندومينيوم يعطيها شخصية وفرادة، عمائر تبنيها الحكومة وتملكها للمواطنين يسدّدون قيمتها على مدى ربع قرن.

الطرقات مسفلتة ونظيفة والناس وجوههم صارمة ويجدون في أعمالهم، النساء، في الزوريا، الزي القطني الأبيض ذي الحواشي التي ترسم العلم أو الصليب الموشى، الجمال أقل مما في قوندر وبحر دار، ربما كانت الظروف الحياتية والحربية التي عاشها الإقليم قد خصمت من رصيد الجمال شيئا، تحس الناس قصر قامة وأقل وزنا مما تعرف. التعب والبرد لم يتركا لي فرصة لأستطلع المدينة.

عملت بنصيحة الدكتور نقا، شربت الجنزبيل باللبن والعسل وعانيت من البرد وشح الأكسجين، نومي متقطع، صحوت مبكرا، مع شروق الشمس انطلقنا.
من مغلي عاصمة إقليم التيغراي خرجنا نبتغي قرية غورو. الزمان العاشر من محرم. المناسبة حولية النجاشي. المسافة ثلاثون كيلومترا.

الطريق الصخري مزدحم للغاية بالرجال، معظمهم في الزي التقليدي المصنوع من النسيج القطني والذي يشبه الزي الباكستاني. شاحنات كبيرة وسيارات نصف نقل محشوة بالناس، ينشدون يحملون أعلاما خضراء وحمراء وأخرى متداخلة الألوان،، عرفت أنهم ينشدون المدائح النبوية، مجموعة من السيارات مكتظة بالركاب، تخطينا سيارتين تحملان أعلام الطريقة الختمية المعروفة في شرق السودان، لم أتبين هل هم وافدون أم أنهم من أهل البلد.
وسط الجمع المتلاطم لاح المزار.
تلة يعلوها مبنى مستطيل لونه بيج قدرت مساحته في حدود المائتي متر، ارتفاعه لا يزيد على الخمسة أمتار تعلوه قبة خضراء.


خارج المبنى تتجاور ستة عشر قبرا، عشرة من مقابر الصحابة الذين هاجروا من جور أهل مكة وانقضت آجالهم في الغربة، شاهد حجري فوق قبر يحمل اسم الصحابي عبدالرحمن بن فضلة، خمس مقابر لصحابيات هاجرن فرارا بدينهن من ظلم ذوي القربى في مكة ثم قبر النجاشي.
نعم النجاشي.
الملك العادل الذي آوى إليه أهل الإيمان من الصحابة وقد ضاقت عليهم شعاب مكة.

بدأ حكم النجاشي سنة 610 م. كانت الهجرة سنة 615 م. مات النجاشي سنة 630 م. قبره يعلوه غطاء من الحرير الأخضر.
أمر النبي محمد في المدينة بأداء صلاة الغائب على الفقيد الغالي.
تضم المقبرة كذلك قبر المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتي.
في الجوار بئر نضاحة بالماء يسمونها زمزم ويعتقدون أن المهاجرين هم من حفرها. إلى جانب الضريح مسجد. في جانب المسجد مدرسة لتعليم القرآن يرتادها الصبيان إلى جانب التحاقهم بالمدارس الرسمية.
عشرات الآلاف من البشر توافدوا على المزار، فهذا اليوم تخصصه الطرق الصوفية في إثيوبيا كلها لزيارة قبر النجاشي، يقيمون احتفالا، تلاوة القرآن الكريم والدعاء وتوزيع الصدقات وإنشاد المدائح النبوية. تقوم على الاحتفال أسرة الشيخ أبرار. هناك احتفال آخر في رمضان من كل عام.

علمت أن ممثلين للطرق الصوفية في السودان ومصر واليمن وسوريا يحضرون الاحتفال.
من بين المنشدين يعلو صوت الشيخ حسين والشيخ محمد أول. أصوات ندية ريانة تتغنى بالمديح.
تلفتّ حولي، الكل في حالة صفاء لم أشهدها من قبل، تفيض عيونهم بالدمع يرفعون أكفهم بالدعاء والبعض انخرط في مناجاة عاشق مدنف وله، مكبرات الصوت تنقل المدائح ليس من الأفواه إلى الآذان.. كلا، كلا، بل من القلوب للقلوب.

سرى الصفاء منهم إليّ، تخلل الجلد واللحم والعظام والخلايا، انتابتني رعشة فعدت بخيالي 1450 سنة إلى الوراء، حين فتح النجاشي قلبه وأرضه لبعثة الهجرة الأولى.
غسلت أوزاري بالدمع وقفلت راجعا.

(نص من كتاب “أسفار إستوائية.. رحلات في قارة أفريقيا” للرحالة والقاص عثمان أحمد حسن- رحمه الله)

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق