مقدمة:
اللغة هي الأداة الرئيسة لبث الفكر والمعرفة، وهي الناقل المميز للتبادل الثقافي، ولا يختلف اثنان في أهمية ودور لغتنا العربية في نقل تراثنا وحضارتنا، باعتبارها نبراساً لعلومنا وثقافاتنا كافة، ولذا من المهم والضروري المحفاظة عليها لما تُمثله من ثقافة وهوية لأمتنا، وسبيل لرقيها وتميّزها، واللغة العربية تتميز بأنها لغة شابة وعتيقة ثريةٌ في الوقت نفسه، ولغة مُبدعة لا تشيخ؛ لغة الحكمة والأدب والعلوم والمعارف، لغة الحرف الأخاذ، ذلك الينبوع الدافق الذى أسهم في معظم الحضارات الإنسانية معرفة وكتابة وأدبا وفكراً، هذا الحرف صاحب الخصوصية والجمال والرمزية الضاربة بالقِدم، المتفرد، الرشيق، في حركته الجمالية وقيمه التعبيرية؛ فجمال العربية من جمال حرفها، ولذا فإن إهدار جماليات الحرف العربي مسألة خطيرة، تتعلق بالهوية وبالتراث العربي، بل وتنتقص من السيادة العربية.
كان الحرف العربي هو الحرف الرئيس لكتابة لغات الكثير من شعوب العالم، كتبت به 146 لغة في آسيا وإفريقيا وأوروبا، يقول د. يوسف الخليفة أبوبكر أن عدد اللغات التي كتبت بالحرف العربي في أوروبا وروسيا تصل إلى ثلاثين لغة، منها: 18 لغة روسية، هي لغات الجمهوريات السوفيتية السابقة، مثل الشيشانية والبلاروسية والقرمية، و12 لغة أوروبية، منها الإسبانية والبرتغالية والألبانية واللغة البلغارية القديمة، والبوسنية، والبولندية واللاتينية واليونانية والكرواتية، ويكشف الأستاذ عبد الرزاق القوسي في كتابه (عالمية الأبجدية العربية.. وتعريف باللغات التي كتبت بها) أن أبرز اللغات الآسيوية التي كتبت بالحرف العربي، هي: اللغة الفارسية والتركية والجغتائية (اللغة الرسمية للإمبراطورية المغولية)، والقازاخية والقرغيزية والأوزبكية والأيغورية والأيتو والتركمانية والدونكانية والسريكولية والشنغنانية والطاجكية والقاراقالباقية والقازاقية والمنغولية والواخية واليغنوبية وغيرها.
يلفت غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) إلى أن اللغة العربية صارت لغة عامة في جميع البلاد التي استولى عليها العرب المسلمون، وحلت محل ما كان في تلك البلاد من اللغات، كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية … إلخ، حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، ظلت اللغة العربية في بلادهم لغة أهل الأدب والعلم، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية، كما أن اللغة العربية كانت ذات أثر عميق في اللغات اللاتينية، وقد ألف بعضهم معجماً في الكلمات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من اللغة العربية، وتركت لغة العرب أثراً مهماً في فرنسا نفسها، ولفت لوبون لمقولة “سيديُّو”: “أن اللهجات السائدة لولاية أوفِرن وولاية ليموزان الفرنسيتين محشوة بالكلمات العربية، وأن أسماء الأعلام فيهما ذات مسحة عربية”.
وفي عصرنا الحاضر أكد عدد من الباحثين في اللغات أن نظام الكتابة العربية من أوفى النُظم الكتابية في العالم، وأن الحرف العربي أصلح الحروف لكتابة لغات العالم،
نتعرف على هذا وغيره من خلال هذه العناوين:
الحرف العربي .. إضاءة من التاريخ
الحرف العربي أصلح الحروف لكتابة اللغات
(الحروفية) فن عربي تتهدده الرقمنة
الحرف العربي وظلم الحاسوب
الصحافة العربية وتشويه الحرف العربي
شبكات التواصل الاجتماعي مهدد جديد للحرف العربي
الحرف العربي .. إضاءة من التاريخ والحاضر:
بدأ اهتمام العرب بالتأريخ للغتهم وكتابتها باكرا، وتأثرت رواياتهم حول نشأتها بمناهج المؤلفين ومصادرهم، واختلفوا في تحديد هذه النشأة تبعًا لاتجاهاتهم، فكان هناك فريقان: نقل لنا الأول منهما أن نشأة كتابة اللغة العربية كانت توقيفية، أوحى بها الله تعالى لآدم أو إدريس أو هود عليهم السلام، ووصلت إلى إسماعيل عليه السلام بعد انحسار الطوفان، ثم انتشرت. ورأى الفريق الثاني أن الكتابة العربية اشْتُقَّت من الخط المُسْند الحميري الذي يُعْرف أيضًا باسم الخط العربي الجنوبي، وأن هذا الخط وصل إلى موطن المَنَاذرة وبلاد الشام عن طريق القوافل التجارية التي كانت تتنقل بين جنوبي الجزيرة العربية وشماليها، ثم انتقل عن طريق الحجاز إلى بقية الجزيرة العربية.
ثم جاء الإسلام، وكان من الطبيعي أن يقوم بدور كبير في تطور اللغة العربية وكتابتها وانتشارها؛ فحمل معه العوامل التي فرضت اتساع ساحة استخدامها، وكانت أول كلمة تنزل من القرآن الكريم تحض على معرفة اللغة العربية واتقان مهارة القراءة بها، بل رتب دين الإسلام أجرا قدرة عشر حسنات لمن يقرأ حرفا من القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم:” مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لا أقول: ألم حَرفٌ، وَلكِنْ : ألِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ” رواه الترمذي.
ولا يتمارى اثنان فيما يتميز به الحرف العربي من خصوصية وجمال ورمزية ضاربة بالقدم في وجدان وكيان الثقافة العربية والإسلامية والعربية الإسلامية، فهو بما يختزله من دلالة كينونة الثقافة ولسانها. هذا الثراء الجمالي والروحي دعا البعض ممن له شغف شديد بالحرف العربي، ليقدم رؤى عاطفية واضحة تجاهه، من بين هؤلاء التشكيلي عز الدين نجيب الذي يؤكد أن الحروف تغني وترقص وتتهادى وتبتهل كما تفعل ألحان الموسيقى وأصوات الآذان وإيقاعات الباليه. وعندما تفعل الحروف ذلك، على سطح الورق والقماش، بوساطة الخطوط والألوان، فإنها تصبح لغة تشكيلية وجمالية، لا تبغي نقل رسالة ذات مغزى مباشر، بل تبتغي إطلاق ألحان سماوية، تُقرأ بالبصيرة والقلب، قبل أن تُقرأ بالبصر والألفاظ؛ ألحانا يؤديها الرسم كما تؤديها الألوان.
الحرف العربي أصلح الحروف لكتابة اللغات:
من المؤكد ونحن نتحدث عن الحرف العربي، أن نشير إلى ما يقول به عدد من خبراء اللغويات أن نظام الكتابة العربية من أوفى النُظم الكتابية في العالم بالغرض الذي وضع له، وأقربها للاطراد في القاعدة، بل إن اللغة العربية قد امتازت بهذا النظام الكتابي الفريد حتى عُرفت به، ونُسب إليها، فأطلق عليه مصطلحات: الخط العربي، والحرف العربي، والأبجدية العربية، ونظام الكتابة العربية.
كتب الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه: (أشتات مجتمعات في اللغة والأدب) تحت عنوان: الحروف العربية أصلح الحروف لكتابة اللغات، قائلا:” إن الأمم التي تعتمد على الحروف العربية في كتابتها أكثر عددًا من كل مجموعة عالمية تعتمد في الكتابة على الحروف الأبجدية، ما عدا مجموعة واحدة، وهي مجموعة الأمم التي تعتمد في كتابتها على الحروف اللاتينية؛ لأن الحروف العربية تستخدم لكتابة اللغة العربية، واللغة الفارسية، واللغة الأوردية، واللغة التركية العثمانية، واللغة الملاوية، وبعض اللغات التي تتصل بها في الجزر المتفرقة بين القارات الثلاث: إفريقيا وآسيا وأستراليا”.
يرى العقاد كذلك أن الأمر في صلاح الحروف للكتابة لا يعود إلى كثرة الأفراد الذين يكتبونها، بل إلى أنواع اللغات التي تؤدي ألفاظها وأصواتها. وعلى هذا الاعتبار تكون الحروف العربية أصلح من الحروف اللاتينية أضعافًا مضاعفة لكتابة الألفاظ والأصوات؛ لأنها تؤدي من أنواع الكتابة ما لم يعهد من قبل في لغة من لغات الحضارة؛ فالحروف اللاتينية تستخدم للكتابة في عائلة واحدة من العائلات اللغوية الكبرى؛ وهي العائلة “الهندية الجرمانية” التي يقوم فيها تصريف الكلمات على “النحت” أو على إضافة المقاطع إلى أول الكلمة أو آخرها، وتسمى من أجل ذلك باللغات “الغروية”؛ من الغراء اللاصق في أدوات البناء والنجارة. أما الحروف العربية فهي تقوم بأداء الكتابة بهذه اللغات وبكثير غيرها؛ فهي تستخدم لكتابة الفارسية والأوردية، وهما من لغات النحت، أو من عائلة اللغات الغروية. وتستخدم لكتابة التركية، وهي من العائلة الطورانية، ويرجعون في تصريف ألفاظها إلى النحت تارة، وإلى الاشتقاق تارة أخرى، فهي وسط بين اللغة الفارسية واللغة العربية.
ويواصل العقاد قائلاً:” استطاعت هذه الأمم جميعًا أن تؤدي كتابتها بالحروف العربية دون أن تدخل عليها تعديلاً في تركيبها ولا أشكالها المنفردة، ولم تتصرف فيها بغير زيادة العلامات والنقط على بعض الحروف. وهي زيادة موافقة لبِنية الحروف العربية وليست بالغريبة عنها؛ لأن العرب أنفسهم أضافوا النقط والشكل عند الحاجة إليها، وليست زيادة شرطة على الكاف بأغرب من زيادة النقط على الحروف، مفردة أو مُثناة، وفوق الحرف أو تحته؛ للتمييز بين الأشكال المتشابهة أو المتقاربة. وعلى كثرة اللغات والعائلات اللغوية التي تؤديها حروف العربية لم يزل ضبطها للألفاظ أدق وأسهل من ضبط الحروف اللاتينية التي تستخدم لكتابة عائلة لغوية واحدة، وهي العائلة الهندية والجرمانية؛ فالإسباني يقرأ الإنجليزية على حسب قواعد لغته فيُحرِّفها كثيراً، ويبلغ من تحريفها مبلغاً لا نعهده في نُطق الفارسي الذي يقرأ الأوردية أو التركية أو العربية، ولا نعهده في نطق العربي الذي يقرأ الفارسية بحروفها ولو لم يكن على علم بمعانيها، ولكنه إذا عرف معناها لم يقع في خطأ من أخطاء اللفظ، ولم يكن هناك خلاف بينه وبين أبناء الفارسية في كتابتها وقراءتها”.
توصل العقاد في ختام كلمته إلى أن حروفنا العربية هذه إذا قيست بغيرها لن نجد لها نظيرًا بين حروف الأبجديات على تعددها وكثرة التحسينات التي أدخلت عليها، وعند البحث الرصين المنصف يمكن أن نشهد للأبجدية العربية بأنها من أصلح الأبجديات لكتابة جميع اللغات.
للقاص الفرنسي جون فيرن قصة خيالية، بناها على أن سياحاً اخترقوا الكرة الأرضية، ولما وصلوا إلى مكان ما في باطنها، خطر لهم أن يتركوا هناك أثرا يدل على مبلغ وصولهم، فتركوا حجراً نُقشت عليه كتابة باللغة العربية. ولما سئل جون فيرن عن سبب اختياره اللغة العربية من بين اللغات العالمية، أجاب قائلاً:” لأنها لغة المستقبل، ولا شك أنه سيموت غيرها في حين تبقى هي حية حتى يرفع القرآن نفسه”.
الحروفية العربية .. فن تهدده الرقمنة:
عندما اكتشف الفنان العربي أن وراء الحرف الواحد أكثر من صوت ومعنى ولغة، برز تيار استلهام الخط العربي كفنٍّ خاص في داخل سيمفونية الفنون التشكيلية العربية والإسلامية المعاصرة، واكتشف الخطاطون الذين تحول بعضهم إلى جماعة (الحروفيين) موسيقى الخط ودوزناته، والحروفيون هم جماعة مُولعة حد الاتراع بالخط العربي وتقاليده العريقة، تشرّبت القيمة الجمالية والصوفية للحرف العربي الذي يمنح المنجز التشكيلي العربي المعاصر أركان تفرده، واختلافه عما هو موجود في الشرق والغرب من تيارات واتجاهات وبدع لا تتوقف.
كان الحرف العربي ولا يزال يعني لمعظم الفنانين التشكيليين في عالمنا العربي الهوية العربية والإسلامية، كما أن الحرف وما يحمله من مدلولات جعل الحروفيين العرب يوظفونه في لوحاتهم الفنية لتفرده ورشاقته وحركته الجمالية وقيمه التعبيرية، مما يعطي هذه الأعمال قيمة فنية عالية، على الرغم من الاختلاف في الأسلوب التقني من فنان لآخر، فإن الجميع يتماهى في محراب الحرف تبجيلا وتقديساً.
والاتجاه الحروفي في التشكيل العربي- بحسب التشكيلي محمد غنوم- يهدف لاعتماد الحرف العربي كمفردة تشكيلية تؤدي لعمل فني عربي تشكيلي معاصر محدد الهوية يتجذر في أعماقها، ويملك إمكانية التطوير والتجديد، بينما تؤكد التشكيلية فوزية الصاعدي أن الحروفية فن متجدد ومتطور لما يملكه الحرف من قيمة تشكيلية وتعبيرية عالية، لكنها ترى أن توسع استخدام الحاسوب وإنتاج اللوحات الرقمية ابتعدت بالكتابة عن الدلالات المصاحبة لها، وأفقدت الحروف العربية التي كانت تكتب باليد، جزءا من روحها وجمالياتها، وقالت:” نحتاج لتطوير بناء الحرف كشكل وكرمز ومعنى والقدرة على تشكيله وتطويعه ودمجه بما يحيط به من مفردات ورموز بشكل معاصر”.
أما التشكيلية رِهام محسن فتقول أن الكتابة العربية من أقدم الكتابات التي لم تتغير، من حيث بنيتها الدلالية للمعاني والتشكيلات الرئيسة للحروف؛ فالقرآن حفظها من التغير، وبالتالي لم تتغير اللغة مع تغير اللهجات وما يجد من الكلمات. والحروفية العربية قائمة بقيام القرآن الكريم، وهو شرفها، وهو الحافظ لها، وهناك رباط مقدس للقرآن بالخط العربي لقوله تعالى :” وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون” (العنكبوت، آية 48).
ترى رِهام محسن أن أهم ما تحتاجه الحروفية العربية في والوقت الحاضر هو مزيد من الاهتمام بالجانب التطبيقي للحروفية، مثل “الفونتات” (الخطوط)، التي تستخدم في الكتابة للصحف والمجلات وعلى الشاشات الإلكترونية، ثم تقول:” بمقارنة بسيطة نجد عدد “الفونتات” العربية قليلاً بالنسبة للاتينية، ومعظمها من التشكيلات الكلاسيكية القديمة، وقليل منها الجديد المبتكر”، مشيرة إلى عدد من الفنانين التشكيليين والتطبيقيين في الوقت نفسه، يجتهدون لتطوير الخط العربي، منهم الفنان فتحي جودة، الذي يعمل منذ سنوات عديدة لتطوير الخط العربي لوظائف تطبيقية، مثل اللوحات التي تستخدم في الطرق.. ليقرأها قائدو المركبات على سرعات عالية بدون الحاجة للتوقف، والخطوط المستخدمة في محطات “مترو الأنفاق” بالقاهرة، كما قدم أفكاره للوحات الإرشادية في مناطق مناسك الحج في منى وعرفات ومزدلفة بالأراضي المقدسة.
الحرف العربي.. وظُلم (الحاسوب):
رغم كل ما سبق عن عظمة وقدسية وجمال الحرف العربي، فإن ثمة مهددات حقيقية، وكثير من القلق والخوف حول ما يتعرض له الحرف العربي حالياً من تشويه الأجهزة الحديثة له، لا سيما الحاسوب والمطابع والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية، ما يعني فقدانه، وبالتدريج، لقواعده وأصوله، وبالتالي ضياعه وتشويهه؛ فقد عانى الحرف العربي برأي الكثيرين من التشويه رضوخاً لظروف الآلات والتقنيات الجديدة التي صُمِمت في الأصل للتعامل مع وطباعة الكتابة اللاتينية.
من المؤكد أن مسألة الطباعة وعلاقتها بالحرف العربي هي مسألة دقيقة لم يتعرض لها إلا القليل من أهل البحث والتقصي؛ فعلاقة الحروف الطباعية بالعرب علاقة مُرتبِكة، ذلك أنه لم يبادر أي من الخطاطين العرب، على مدى ما يربو على قرنين من بداية الطباعة، إلى العمل في هذا المجال، وأغلب مصممي الحروف الطباعية العربية الأوائل كانوا من الهنود والرومان والفرس والهولنديين، ممن لا علم لهم بالأبعاد الاجتماعية والدلالات الروحية للحروف العربية، ولذا كان مستغربا إلا يتدخل عربي واحد في جهود تصميم حروف لغة أمته.
يرى الخطاط محمد سعيد الصكار أن أصول هذه الإشكالية ترجع إلى وضع العالم الإسلامي أثناء الحكم العثماني وتعنته في وجه حركات التجديد، بجانب زُهد الخطاطين العرب الذين كانوا ينكبُّون على كتابة الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بأيديهم لإيمانهم بأنها ضرب من التقوى، ولهذا تعطل تصميم الحرف العربي إلى عام 1734م، عندما بادر أول عربي هو (عبد الله الزاخر) من لبنان بإنشاء أول مطبعة تطبع باللغة العربية، ومع أن هناك أكثر من ١٦٠٠ شكل للحروف العربية، لكن لم يتمكن العرب من تطويع هذا الكم الهائل من الأشكال على آلة صُممت أصلاً لكتابة الحروف اللاتينية، ومن هنا بدأ المسعى لتقليص عدد أشكال الحروف العربية إرضاءً للآلة الصماء، وبالطبع لم يكترث الأجنبي لهذا التقليص.
يُحدد (الصكار) أسّ الأزمة حالياً في أن أجهزة الحاسوب تشوه كثيراً جماليات الحرف العربي؛ فالخطوط الموجودة حالياً هي خطوط شائهة؛ لأن الآلة المصممة لم تُصمم لتناسب الحرف العربي، كما أن الكتابة بالحاسوب تعتمد على سطر واحد أفقي، لا يُمكِّن الحرف العربي من التحرك فيه إلى فوق أو أسفل؛ فالمعضلة الأساسية هي أن الخط العربي يتطلب تصميم أجهزة قادرة على استيعاب كتابة الحرف العربي في أكثر من مستوى واتجاه.
يؤيد عدد كبير من الخطاطين المعاصرين، وجهة نظر (الصكار) في أن الحاسوب تسبب في إفساد عدد من الخطوط العربية الشائعة مثل خط النسخ، والخط الكوفي، وعدد آخر من الحروف مثل حروف الثلث والديواني. كما أن هذه الخطوط العربية بعد برمجتها وإطلاق أسماء عليها، فقدت – برأي الصكار- التنوع والرقة والفن والأصالة والتميز؛ فالأحجام المتساوية والارتفاعات الثابتة، تسبب في إهدار النسب الخاصة بالحرف العربي وفقدانه لعنصر التوازن، كما تحولت الحروف الأفقية إلى حروف عرضية وسميكة، والرأسية أصبحت رفيعة وقصيرة، وفقد حرفي الفاء والقاف في الحروف الطباعية الرقبة المميزة لهما، أما الباء المتصلة، فصارت تعاني مشاكل عديدة.
ينبه الصكار إلى مسألة مهمة وهي أنه إذا كانت برمجة الحروف العربية ضرورية لاختصار الوقت والجهد، فإن إهدار جماليات وسمت هذه الحروف العربية مسألة خطيرة، تتعلق بالهوية وبالتراث العربي، حيث أصبحت تلك الخطوط غير المتناسقة، هي السائدة في الصحف والمجلات العربية اليوم، كما أصبحت النموذج العام المعروض للخط العربي.
الصحافة العربية وتشويه الحرف العربي:
يذهب الفنان المعروف محيى الدين اللباد إلى تأكيد نفس الرأي السابق، عندما يشير إلى أن خطنا العربي رشيق وجميل ومنغم ومتنوع الإيقاع، أما عناوين صحفنا أومجلاتنا فهي عناوين غريبة وغليظة، وصحفنا ومجلاتنا العربية، أصبح لها اليوم نفس الشكل، ولم تعد تتميز عن منافساتها في هيئتها، وهذه الحروف الغليظة صممها من لا علاقة له بالخط العربي، ولعله كان يقصد أن يجعل الكتابة العربية تغلب الكتابة الإفرنجية في هندستها وامتدادها الأفقي، في شكل شرائط منتظمة، ولم يكن هذا المصمم يعلم أن الإيقاع الخاص للكتابة العربية، وأن موسيقاها المميزة، يكمنان في عكس ما قصد إليه في بنية الخط وتركيباته، وفي توازنه العام وليس المباشر.
بينما يرى مسعد خضير البورسعيدي أن الخطر الحقيقي يكمن في اندثار عدد كبير من الخطوط العربية، والسبب هو اندثار الخطاطين أنفسهم، فالخط ليس مادة أساسية في المدارس والمعاهد والجامعات في العالم العربي، ومعاهد تحسين الخطوط قليلة جداً، وأصبح الحاسوب بديلاً عن الخطاطين في الصحف والمجلات والتلفاز وحتى في إعلانات الطرق واللافتات.
يذهب حامد العوضي إلى أن السماح لشركات الإنتاج الغربية بتصميم وتحديد شكل أنماط الحروف العربية، هو نوع من التفريط في السيادة، ويرى أن الأنماط الجديدة من الحروف التي يزودنا بها الغرب، تأتي مجافية لروح الخط العربي. وقد جرت محاولات لابتداع تقاليع من الحروف العربية تُقلِّد اللاتينية، مثل ترك تلاصق الحروف العربية في إطار حملة تزعم أن اتصال الحروف العربية هو سبب تخلفنا عن الحضارة الحديثة، وقد رفض مجمع اللغة العربية تلك الطريقة في الكتابة، لأسباب متعددة منها أنها تفصلنا عن تاريخنا، مشددا على أن طريقة الكتابة هي جُزءٌ مهم من هويتنا.
ويؤكد العوضي أن الخط العربي لا يعتمد على الأفقي أو الهندسي، ولا يجعل الحروف الرأسية عمودية، بل يجعلها مائلة، و هذا جزء من طبيعة العين الشرقية في الرؤية، كذلك الفراغ داخل حروف مثل: (م، ص، ق، لا) على سبيل المثال، هو جزء من شخصية الحرف العربي، وقد وُضِع وَفق ميزان فني دقيق، وبدونه تُطمس شخصية الحرف العربي.
يرى د. محمود شاهين في كتابه (الحروفيّة العربية.. الهواجس والإشكالات) أنه لا بد من ميكنة الحرف العربي، بهدف اختصار الوقت والجهد، وهو أمر مُلح وضروري، يرتبط بتشعبات استخدام الحاسوب في حياتنا المعاصرة، لكن إهدار جماليات الحروف العربية، والتضحية بقوانينها ونظمها، هي مسألة خطيرة لارتباطها الوثيق بالهوية والتراث العربي والإسلامي، وما لم تُحل إشكالية ميكنة الحرف العربي، فإنها ستتكرس وتزداد تعقيداً مع ازدياد وتوسع وانتشار استخدامات الحاسوب في حياتنا المعاصرة، حيث صارت تعتمد عليه غالبية وسائل الاتصال البصرية كالإعلام المقروء، والمشاهد، والملصقات، والإعلانات، وأغلفة الكتب، واللافتات، وأصبحت هي النموذج العام المعروض والمعمول به للخط العربي، والخطورة الكبيرة تأتي من عملية تعميمها وانتشارها والتعود عليها، رغم ما فيها من أخطاء، وبشاعة، وعدم تناسق.
شبكات التواصل الاجتماعي مهدد جديد للحرف العربي:
برزت مهددات جديدة للحرف العربي مع تطور تكنولوجيا الاتصال، وسيطرة وسائط الاتصال الجدية وشبكات التواصل الاجتماعي على دنيا الشباب العربي؛ فظهرت كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، مما يمثل انهياراً جديداً للغة الضاد، وهو أمر قد خلّف وراءه ألف بائية عجيبة تنتشر في أوساط الشباب سواء في رسائلهم المتبادلة عبر الهاتف المحمول، أم في أغلب كتاباتهم عبر المواقع الاجتماعية، ومنها إلى الشريط المتحرك أسفل شاشات الفضائيات العربية. والسبب وراء تلك الظاهرة التي بدأت نكتة؛ وما لبثت أن تحولت إلى كابوس مزعج، حسبما ردد بعض الشباب هو السرعة والسهولة والمرونة في كتابة الحروف اللاتينية مقارنة بالعربية.
وكتابة العربية بحروف لاتينية طريقة انتشرت بين الشباب منذ بروز نجم المحمول وشبكة الإنترنت، هذه الكتابة التي يسميها البعض “الأرابش” أو “العربيزي” وتعني أن يكتب الشباب الكلمات العربية باللغة اللاتينية مثلاً جملة: إيه الأحوال تكتب “eh elahwal”، إن شاء الله “isa”، الحمد لله “halel”، لا حول ولا قوة إلا بالله “lahwlkeb”، كله بأمر الله “kba”. وساعدت أجهزة المحمول القديمة التي لم تكن بها حروف عربية ولا تدعم الكتابة بها على انتشار الظاهرة، حيث حاجة المستخدمين إلى كتابة الرسائل بالعربية ما أدى لاستخدامهم الحروف الإنجليزية للتعبير عن الكلمات العربية، وقد استغرق تزويد الهواتف المحمولة بالحروف العربية وقتاً ليس بالقليل كما نعلم.
ديباجة أخيرة:
الحرف العربي تراث قومي وقيمة حضارية، والحفاظ عليه ونشره والافتخار به عمل من أعمال السيادة الوطنية، والاهتمام باللغات التي كانت تكتب بالحرف العربي أمر مهم أيضا ويخدم غرضاً استراتيجياً قومياً بحماية هذه اللغات الصديقة التي تشاركنا حرفنا المميز، وتطويرها لنشر الحرف العربي في العالم على أوسع نطاق، وهذا العمل سيؤدي يوماً ما، وحتماً.. إلى أن تكتب كل الدنيا بالحرف العربي.
يجب أن نسعى جميعا للتمسك بالحرف العربي، والعمل على تطويره في الجانب الفني التطبيقي الوظيفي له بما يخدم المجتمع واحتياجاته بشكل مباشر وبصورة أكبر؛ فيكون التطوير التشكيلي الفني المبتكر والمتجدد ليناسب أنظمة العلامات العصرية للحروفية واللغة ؛ مثل الخطوط التي تستعمل للشاشات، والخطوط في شاشات الحاسوب، وأجهزة الهاتف المحمول والأجهزة اللوحية، ومثل اللوحات الإلكترونية التي يكتب عليها بالعربية في المرافق العامة كالبنوك والمطارات وأماكن التجمعات.
وحفاظا على الحرف العربي، وللحيلولة دون خروجه عن الأصول والنظم والقواعد التي وضعها له الأجداد، عبر عصور تاريخية مختلفة، يبدو من المهم أيضاً القيام بعملية مراجعة متأنية لما تُقدِمه الحواسيب من طُرز وأنواع الخطوط، وإعادة تصميمها من قبل اختصاصيين، يلمون بقواعدها ونظمها، وبالتالي إزالة التشويه الذي لحق بها، قبل أن يصبح ذلك في حكم المستحيل، وهذه المهمة الملحة والضرورية، لا يمكن لخطاط أو جمهرة من الخطاطين القيام بها، إنما تحتاج إلى جهود كبيرة من المؤسسات الرسمية والخاصة وذات الصلة بخدمة اللغة العربية في الوطن العربي مثل المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (ألكسو)، ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والثقافة والعلوم (إيسيسكو)، ومركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، وجائزة محمد بن راشد للغة العربية، ومركز يوسف الخليفة لكتابة اللغات بالحرف العربي بجامعة إفريقيا العالمية، وغيرها. بجانب الاجتهاد في فرض مراجعة ما تُقدِمه كل أنواع الحواسيب من أنواع وأشكال الخطوط العربية، والضغط لإعادة تصميمها من قبل اختصاصيين وخطاطين عرب، وذلك في الدول المنتجة والمصدرة للحواسيب والهواتف والأجهزة اللوحية بضغط من المؤسسات والشركات العربية التي تستورد هذه الحواسيب والهواتف والأجهزة، وكل الحادبين على مستقبل اللغة العربية.