مقالات
صناعة الدستور بين الأصالة والوكالة
د. عبد الكريم الهاشمي:
يُعد الدستور قانون الدولة الأساسي الذي يسمو على كل القوانين إذ يتكون من مجموعة من القواعد التي تبين شكل الحكم في الدولة (ملكي – جمهوري – إتحادي) وشكل النظام السياسي الحاكم (رئاسي – برلماني – مختلط – امبراطوري – سلطاني) كما تنظم قواعد الدستور السلطات التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية من حيث الاختصاصات والسلطات وحدود علاقاتها ببعضها البعض وعلاقاتها بالشعب فيما يتعلق بالحقوق والواجبات والحريات العامة التي ينبغي أن يتمتع بها المواطنون كذلك تبين قواعد الدستور علاقة الدين بالدولة حيث تننص بعض الدساتير صراحة عن فصل الدين عن الدولة فيما يعرف بالعلمانية بينما بعض الدساتير تنص على أن الدين هو المرجعية العليا للدستور كذلك تبين بعض الدساتير النظام الاقتصادي الذي ينبغي ان يسود في الدولة (اشتراكي، رأسمالي، إسلامي، مختلط) وهذا ما يكسب وثيقة الدستور اهمية ويجعل لها دور اساسي في حسم القضايا الكبرى في الدولة التي من شأنها تجعل إستقرار الدول ممكنا.
2
تتعدد طرق إعداد وثائق الدستور في الفقه الدستوري لكنها تنحصر ما بين الطرق الديمقراطية والطرق غير الديمقراطية. صناعة او نشأة الدستور في الطرق الديمقراطية ترجع الامر كله للشعب بإعتباره مصدر جميع السلطات في الدولة وذلك عبر ما يعرف بالسلطة المؤسسة (الجمعية التأسيسية- مجلس الشعب – مجلس النواب) التي تمثل الشعب عبر تفويض ممثلين له لممارسة سلطاته في الحدود التي تحقق تطلعاته في طبيعة الدولة وإدارتها وتنظيم الحريات العامة.
تختلف الظروف التي تنشأ فيها السلطة المؤسسة (الجمعية التأسيسية) حيث تصبح الحاجة ماسة لها عندما تنشأ الدولة لاول مرة حيث تضطلع هذه السلطة المؤسسة بوضع أول وثيقة دستورية لها، وعند استقلال الدولة ايضا تنشا الحاجة لسلطة مؤسسة، او عندما يبادر النظام السياسي القائم بإصدار دستور جديد يحل محل الدستور القائم ليستوعب المتغيرات التي طرأت في الدولة وينسجم معها، او عندما يحدث تغيير بإسقاط النظام السياسي الحاكم في الدولة كالحالة التي يمر بها السودان الأمر الذي يستدعي تجاوز الدستور القائم فتظهر الحاجة إلى وضع دستور جديد يعبر عن اتجاهات النظام الحاكم الجديد عن طريق سلطة تأسيسية لا تستند إلى الدستور القديم. إن طريقة إعداد الدستور عبر السلطة التأسيسية هي الطريقة المثلى لإعداد الدساتير التي تكفل ثباتها وديمومتها لما تتمتع به من إجماع وتحقيق لسطة الشعب. في حالة الثورات يحدث فراغ دستوري ما بين هدم الانظمة السابقة وبناء انظمة جديدة وفي هذه الحالة يلجأ الدستوريون إلى خيار التوافق على إعلان دستوري مبسط يحكم فترة إنتقالية يعقبها تكوين السلطة التأسيسية (الجمعية التأسيسية) لتضطلع بهذا الدور وهذا هو الطريق الديمقراطي، ولكن ربما تتخذ السلطة الثورية الطريق غير الديمقراطي فتقوم بإعداد وثيقة دستورية تمارس من خلالها حكم الشعب لفترة قد تطول ولا تقصر هذا ما اثبتته التجارب. من الطرق الديمقراطية المعروفة في الفقه الدستوري لبناء الدساتير ايضا طريقة الإستفتاء الدستوري والتي يمارس الشعب من خلالها سلطاته فيما يعرف بالاستفتاء الدستوري أو الاستفتاء التأسيسي حيث يتم فيها وضع مسودة لمشروع الدستور عن طريق هيئة “منتخبة” أو لجنة حكومية “مفوضية” او عقد “مؤتمر دستوري توافقي” ومن ثم يستفتى الشعب في الوثيقة المعدة لتكتسب قوتها الملزمة.
3
إن الطريقة التي يفضلها الفقه الدستوري في إعداد الدساتير أن يكون إعداد مشروع الدستور من عمل هيئة “منتخبة” وليس لجنة “فنية” حكومية او غير حكومية ولعل السبب في ذلك يعود إلى بعض التجارب المريرة التي عهد فيها إعداد وتحضير مشاريع الدساتير إلى لجان “فنية” فانحرفت عن أهدافها بل عملت على تقنين رغبات الحكام في الاستئثار بالسلطة او محاولة فرض ايدلوجيات آحادية او إنتهاج إسلوب إقصائي او تكريس السلطة لدى تيارات سياسية معينة. كذلك يتولد الحذر من اسلوب عمل اللجان الحكومية لاستخدامه في الفترات التي تعقب الثورات و الانقلابات فتتعجل السلطة الحاكمة التي تعقب الثورة او الإنقلاب في إعداد وثيقة أو إعلان دستوري مؤقت ومن ثم يتم عرضه على الشعب ليبدي رأيه فيه فتدخل في المسودة او المشروع المقترح افكارها ورغباتها في نظام الحكم وإدارة الدولة والحريات وعلاقة الدين بالدولة مستغلة حماس الشعب للعهد الجديد أو كراهيته للنظام السابق ليبدأ العمل به مباشرة بناء على ما يسميه البعض الشرعية الثورية التي تتجاوز شرعية وسلطة الشعب لحكمه وفقا لتصورها الآحادي والإقصائي.
4
الأسلوب غير الديمقراطي في إعداد الدساتير الذي إما ان تسود فيه إرادة الحاكم على إرادة الشعب فيتولى الحاكم إعداد الدستور بإرادة منفردة ثم يسدي الدستور للشعب ك”منحة” منه، أو تشترك في إعداد الدستور إرادة الحاكم وإرادة الشعب وهو ما يعرف “بالعقد” والاسلوبين يعدان من اشهر الاساليب غير الديمقراطية في الفقه الدستوري. كذلك من الاساليب غير الديمقراطية في إعداد وصناعة الدستور هو ان تتسلط مجموعة من الاحزاب او المنظمات او النقابات للإضطلاع بهذا الدور بصورة إنتقائية وصفوية مترعة بالإقصاء والإستعلاء متجاوزة كل الاعراف والتقاليد المرتبطة ببناء الدستور حيث تلعب دور الوصي على الشعب ومن ثم تحاول فرضه على الشعب.
5
تأسيسا على ما سبق نجد ان ما اقدمت عليه لجنة المحامين التسيرية من محاولة لإعداد وثيقة دستورية تحكم ما تبقى من الفترة الإنتقالية وضابطة ومنظمة لتشكيل كل مؤسسات الانتقال قد خرجت عن كل التقاليد المتعارف عليها في الفقه الدستور لإعداد الوثائق الدستورية وأن أيسر ما يقال عنها انها نزعت الى الطرق غير الديمقراطية ومارست نوعا من الإلتواء والإلتفاف والخداع في إعداد مسودة الدستور مما جعلها تواجه موجة من الرفض والإنتقادات وصلت لوصفها “باللقيطة” كما اكد المحامي يحي الحسين عضو النقابة التي تنسب إليها الوثيقة المقترحة انها صنيعة أجنبيه بإمتياز حيث سمى المؤسسة التي اعدتها مؤكدا ان اللجنة التسيرية لنقابة المحامين لم يكن لها مبادرة تتعلق بمشروع الدستور ولم يسبق لها ان طرحت مثل هذه المبادرة عليه فإن حديث الاستاذ يحيى يجعلها غير جديرة بالجرح والتعديل او الإبانة والتشريح او النقد او الإستحسان او الذم او المدح فقد إحتشدت الوثيقة بكثير من التناقضات والمغالطات واثارت قضايا جدلية لا تستطيع مجموعة ضحلة من الاحزاب حسمها مثل علمانية الدولة وطبيعة ونظام الحكم كما تعمدت إلى تجاهل وضع اللغة والدين في الدولة كما تضمنت نصوصا لا تعبر عن هوية الشعب وقيمه المركوزة واخلاقه السمحاء. إن اي مسعى يتسم بالإنفراد لوضع دستور (مؤقت او دائم) او محاولة إنتقاص حق الشعب في إعداده او محاولة الإلتفاف على وضعه بدعوى الشرعية الثورية او إنتحال تمثيل الشعب تعد محاولة فاشلة ترتكز على تصورات باطلة مهما كانت قيمة ومكانة أعضاء اللجنة التي قامت بإعدادها والتأييد الذي وجدته من سفراء وبعثات دبلوماسية فإن حق إعداد الدستور حق اصيل من حقوق الشعب التي يمارسها بالاصالة ولا تمارس بالوكالة إلا إذا صدر منه تفويض بذلك وما دون ذلك يعد تدخل وفضول وما بنيى على باطل فهو باطل.
6
يكشف واقعنا السياسي العديد من أشكال التلاعب في إعداد النصوص الدستورية سيما وثيقة المحامين ومن قبل وثيقة الشراكة التي اعقبت الثورة مما يفرض على الشعب ضرورة مراقبة كافة المراحل التي تمر بها اي وثيقة دستورية (دائمة او مؤقته) يراد بها حكمه. إن الشعب السوداني الذي احدث التغيير الذي وفر لهذه المجموعات مناخا من الحرية وصل حتى محاولة إغتصاب حقه في التشريع قادر على حماية حقوقه ولا يسمح بمصادرة حق اصيل كإنشاء أو صناعة الدستور (مؤقت او دائم) فهو صاحب السيادة الحقيقة وهو مصدر كل السلطات وأي محاولة تتجاوزه وتصادر حقه بمحاولة فرض دستور لا يعبر عن هوية وقيم السواد الاعظم من الشعب ستواجه بالرفض وعدم الترحيب.
7
إن تجربة السودان في صناعة الدساتير ثرة وكبيرة تجعله ليس في حاجة لإستجلاب دستور من الخارج او تكليف مؤسسة اجنبية لإعداده ثم تمريره عبر نقابة او مجموعات حزبية تتدعي وضع تلك الوثيقة. وصل مجمل الدساتير السودانية التي تم إعدادها عبر الحقب (مؤقتة، وانتقالية) سواء ما جاء بوسائل ديمقراطية او ما جاء بوسائل غير ديمقراطية وصل إلى أكثر من عشرة دساتير وعدد من المراسيم والاوامر العسكرية وهذا يعتبر إرث تشريعي قادر وكفيل بسد اي فراغ دستوري دون الحاجة إلى التفكير في إعداد وثيقة لا تحظى بتوافق.
خلاصة القول أن الوضع الراهن لا يحتمل صراع حول امر معلوم في الفقه الدستوري بالضرورة وهذا يستلزم الإكتفاء بالوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الإناقالية والمعلنة في سبتمبر 2019م لإكمال ما تبقى من الفترة الإنتقالية وترك امر صناعة الدستور “لهيئة” او “لجنة” أو “مفوضية” تتمتع بتفويض شعبي او عقد “مؤتمر دستور” يعبر عن التنوع الذي يتمتع به الشعب السوداني وما خلا ذلك عبث وهدر للوقت.
Krimhashimi5@gmail.com