مقالات
يسألونكم عن التسوية السياسية السودانية الإقليمية الدولية
بقلم/ برير إسماعيل:
في البدء التسوية السياسية كمفهوم سياسي وفقاً للمعادلة السياسية الموجودة على الأرض في أي بلد على الكرة الأرضية إن كانت هذه المعادلة لصالح الحركة الجماهيرية ليست كعبة و إنما الكعب هو التسوية السياسية الكعبة عندما تكون المعادلة على الأرض في مصلحة اللجنة الأمنية و السودان كبلد ليس بالدولة الأولى في العالم التي تحدث الناس فيها عن التسوية السياسية لصالح المظلومين و المقهورين و لن تكون الأخيرة.
تاريخياً لم ينل السودان إستقلاله بعد هزيمة الجيش السوداني و الحركة الجماهيرية المقاومة للمحتل البريطاني و إنما نالت البلاد إستقلالها عن طريق التسوية السياسية مع ذات المحتل و من ثم أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الغالبية العظمى من المواطنين و المواطنات لأن المعادلة السياسية على الأرض حينها كانت في صالح النخب السودانية التي أدخلت السودان في جحر ضب خرب منذ ذلك التاريخ و إلى يومنا هذا.
في الوقت الحالي يبدو أن مآلات الوثيقة الدستورية الكارثية تسببت في شيطنة مفهوم التسوية السياسية نفسه لدى غالبية مكوِّنات الحركة الجماهيرية الثائرة.
بخلفية الإحتيال السياسي الذي جسَّدته الوثيقة الدستورية التي جاءت بها التقديرات السياسية الخاطئة لقوى الحرية و التغيير تمت قراءة التسوية السياسية بمثابة إسم الدلع الجديد لمصطلحي المكوِّن العسكري و المدني اللذين طغيا بعد ظهورهما على سطح الحراك السياسي/ الثوري في السودان بقدرة قادر بعد 11 أبريل 2019م.
لقد وصلت القوى الجماهيرية الثورية الآن إلى خلاصات مفادها أن التسوية السياسية المطروحة حالياً تعني ببساطة شديدة سرقة المكتسبات الثورية من قِبل اللجنة الأمنية التي ورثت نظام الجبهة الإسلامية القومية بعد الرحيل الصُّوري لقيادات الصفين الأول و الثاني مع الإبقاء الكامل لكافة منظومة القوانين القمعية و لكل السياسات الإقتصادية الطفيلية اللصوصية التي كانت تدير بها المنظومة الكيزانية البلاد و عليه فإنَّ الحركة الجماهيرية محقة في هذه القراءة الصحيحة للتسوية السياسية القادمة و التي يبشِّر بها عدد مقدر من السياسين المحترفين الذين أدمنوا تجريب المجرَّب.
لن تستطيع التسوية السياسية و بمعطيات الواقع السياسي السوداني على الأرض تصفية السياسات الإقتصادية التي نهبت موارد البلاد و تصفية كذلك القوانين القمية التي تدير بها المنظومة الإنقلابية البلاد كما أن الحركة الجماهيرية الثائرة لن تستطيع بمقتضى هذه التسوية إقامة العدل في السودان فضلاً عن أنها لن تستطيع عبرها تسليم المطلوبين دولياً و بإختصار شديد التسوية السياسية في مخيلة الحركة الجماهيرية الثائرة تعني بصورة مباشرة إعادة تدوير النفايات السياسية الكيزانية و تعني كذلك المحافظة على الحظوظ التاريخية لدولة ما سُمِي بالإستقلال الذي كان في حقيقته إستغلالاً من قِبل غالبية الأفندية و جلابة السلطة و هم غالبية النخب السودانية لملايين المواطنين و المواطنات في طول البلاد و عرضها بما في ذلك إستغلال هذه النخب التي حكمت السودان بعد 1 يناير 1956م لغالبية المكوِّنات الإجتماعية السودانية المستعربة المحسوبة عليها.
من أمهات الخيبات السياسية الكبرى التي ساهمت بدورها في تعطيل مقدرات و مكتسبات الحركة الجماهيرية السودانية الثائرة التي لم تستبقِ شيئا من أجل الإنتصار على عصابة الجبهة الإسلامية القومية ظهور مصطلحي المكوِّنين العسكري و المدني و لذلك عندما جاءت مرحلة الحديث عن التسوية السياسية بصورة مبهمة و ضبابية أعادت لأذهان الحركة الجماهيرية بغبغائية حديث الكثير من الساسة آنذاك عن المكوِّنين العسكري و المدني و عن التناغم السياسي الكذوب الذي كان حادثاً و بالحديث عن تكرار ذات التجربة الفاشلة مع اللجنة الأمنية يبدو أن بعض الساسة السودانيين من آل البوربون لم ينسوا شئياً و لم يتعلموا شيئاً.
نكرر القول من باب عسى و لعلَّ إنَّ الوثيقة الدستورية الكارثية نفسها كانت تسوية سياسية صُورية لصالح اللجنة الأمنية الراعي الرسمي لمصالح و إمتيازات عصابة الجبهة الإسلامية القومية في داخل البلد و خارجها بعد 11 أبريل 2019م.
إنَّ القاسم المشترك الأعظم ما بين الوثيقة الدستورية الكارثية و التسوية السياسية الحالية هو توقيت طرح المصيبتين لأن اللجنة الأمنية في ذلك الوقت كانت تعيش في مأزق سياسي كبير لدرجة أنها كانت تلفظ في أنفاسها السياسية الأخيرة بسبب المحاصرة الجماهيرية حينها ظهرت الوثيقة الدستورية كمنقذ سياسي لها من المأزق. تعيش حالياً ذات اللجنة الأمنية ذات الظروف السياسية الحرجة لتجد أمامها عملية التلويح مجدداً بالتسوية السياسية لإنقاذها من ذات الورطة و من نهاية الموت السياسي المنطقية لمشروع حركة الأخوان المسلمين التي ظلت تجيد التجارة بالدين لعشرات السنوات و كانت عملية الإنقاذ هذه من قِبل بعض مكوِّنات ذات القوى السياسية التي جاءت بالوثيقة الدستورية المعيِّبة في كل تفاصيلها.
إنَّ الهدف الإستراتيجي للجنة الأمنية لنظام الجبهة الإسلامية القومية من وراء الجري للتستر خلف عباءة فِرية التسوية السياسية الحالية هو قطع الطريق على عملية التغيير الشامل في بنية الدولة السودانية ذلك التغيير الذي ثارت من أجله الحركة الجماهيرية بعد أن قدَّمت الكثير من التضحيات.
أما مسألة الحديث عن أن التسوية السياسية هدفها هو إبعاد البلاد عن اللبننة و الصوملة و الأفغنة و اللبيَّنة هو حديث فيه محاولة تغبيش واضحة وضوح الشمس في القارة السمراء للرؤى و فيه محاولة تضليل كبيرة للحركة الجماهيرية لتقبل بأرباع الحلول وصولاً لأنصاف الثورات لتظل الحركة الجماهيرية الثائرة تلف و ندور حول حلقة مفرغة إلى ما لا نهاية و معروف بالضرورة أن نفس هذا الحديث قد قِيل لتمرير الوثيقة الدستورية الكارثية التي تمثَّلت خلاصاتها في أن اللجنة الأمنية رتَّبت أوراقها مجدداً و عملت على إعادة غالبية الفلول الكيزانية لمراكز صناعة القرار في الدولة سراً و علانية.
المطلوب الآن و قبل فوات الأوان وحدة قوى الثورة السودانية العريضة التي لها مصلحة حقيقية في التغيير الشامل و ليحدث ذلك يجب على هذه القوى الثورية ألا تلتفت لخزعبلات بعض القوى السياسية التي تريد تغييراً متحكماً فيه يعود بالبلاد إلى يوم 29 يونيو 1989م ذلك اليوم الذي سبق الإنقلاب الكيزاني.
المماحكات السياسية المستمرة كانت خلاصتها أن بعض قيادات القوى السياسية رافضة للتغيير الشامل في السودان و لذلك كانت موغلة في عملية الإحتيال السياسي و مجتهدة جدا لإحداث تغيير متحكم فيه و لكن فات عليها أن التغيير المتحكم فيه ترفضه غالبية مكوِّنات الحركة الجماهيرية بما في ذلك غالبية جماهير ذات القوى التي تسعى لإحداث تغيير متحكم فيه و بالطبع هذا مؤشر جيد يفيد بأن عقارب ساعة التغيير في السودان لن تعود للوراء بفضل نضالات الحركة الجماهيرية صاحبة الكلمة الأولى و الأخيرة في البلد.
ليحدث التغيير الشامل في السودان و بإرادة الحركة الجماهيرية الثائرة لابد من وقف عملية تقسيم المقسم في أوساط هذه القوى الثورية العريضة لأن تفتيت وحدة الحركة الجماهيرية سيصب بصورة أوتوماتيكية في مصلحة المنظومة الإنقلابية و مصلحة حلفائها في الداخل و الخارج.
ليس من مصلحة الثورة السودانية العظيمة في شيء الدخول في معارك إعلامية أو خلافها مع المجتمعين الإقليمي و الدولي لأنهما ليسا بجمعيات خيرية و إنما يعملان دائماً و أبداً لتحقيق مصالحهما بواقع مصالح كل دولة على حدة مهما كَبُر حجم الدولة أو صَغُر و بناءً على القراءة السياسية لموازيين القوى السياسية على الأرض في السودان و لذلك كلما قويت شوكة الحركة الجماهيرية و علت هتافاتها بخروجها في الشوارع بصورة راتبة إعترف بها المجتمعان الإقليمي و الدولي لتحقيق مصالحهما أيضاً و كلما ضعفت شوكة الحركة الجماهيرية بسبب الصراعات الدائرية و المماحكات و المزايدات السياسية إنحاز المجتمعان الإقليمي والدولي للمنظومة الإنقلابية لتحقيق ذات المصالح.
عليه لا نَمِّلْ من تكرار أن الثورة السودانية المجيدة جاءت عبر تراكم نضالي طويل للغاية نضالاً مدنياً و نضالاً مدنياً مسلحاً شاركت فيه قوى الكفاح المسلح بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان عندما كانت موحَّدة و تواصلت ذات المشاركة النضالية المسلحة بعد أن نالت دولة جنوب السودان إستقلالها و شاركت فيه كذلك قوى الكفاح المسلح التي وقَّعت على إتفافيات سلام جوبا إلا أنها ضربت مصداقيتها في مقتل عندما إنحازت الكثير من قياداتها و عدد مقدر من جماهيرها بطريقة صُورية لإنقلاب 25 أكتوبر 2021م الذي كان إمتداداً طبيعياً لإنقلاب الوثيقة الدستورية بإعتباره الإنقلاب الأصل الذي غيَّر خط مسيرة الثورة لصالح الذين ثار الناس ضدهم مهما حاول البعض تجميله و تبريره و الحديث عنه بإعتباره الممكن تاريخياً.
سياسياً ليس من مصلحة الثورة في شيء تجريد كل جماهير و كل قيادات قوى الكفاح المسلح التي إنحاز الكثير من قياداتها لإنقلاب 25 أكتوبر 2021م من رصيدها النضالي الذي قدمته في مسيرة الثورة قبل الإنحياز الأخير للجنة الأمنية التي قامت بالإنقلاب و لذلك من الأفضل و الأفيد للثورة أن تتواصل جماهير الثورة و قياداتها السياسية و المدنيَّة مع جماهير و قيادات حركات الكفاح المسلحة التي وقعت على سلام جوبا لإحداث إختراق سياسي لصالح الثورة و بالتالي لصالح وحدة البلد.
المطلوب في قراءتي للمشهد الثوري/ السياسي السوداني و من كل مكوِّنات قوى الثورة العريضة إجراء عملية المحاكمات السياسية و القانونية و الجنائية و الأخلاقية لكل قيادات و لأي من جماهير حركات الكفاح المسلح التي وقعت على سلام جوبا و المنحازة للإنقلاب الأخير دون تجريدها من رصيدها النضالي المدني و المسلح الذي سبق مشاركتها في الإنقلاب الأخير.
المنطق يقول يجب ألا ترفض قوى الثورة العريضة أي من الحركات المسلحة التي إنحازت للإنقلاب الأخير لتعلب دور تمومة الجرتق في حالة تصحيح خطها السياسي بإنحيازها التام للثورة و لجماهيرها و هذا يعني ببساطة خروجها من المنظومة الإنقلابية الحالية.
بعض التيارات السياسية السودانية و بعض القوى الإجتماعية العنصرية وجدت ضالتها في إنحياز قيادات سلام جوبا للإنقلاب الأخير فعملت على تجريدها من كل الرصيد النضالي الممتد لسنوات عديدة و هذا بالطبع موقف غير أخلاقي و لا يخدم الهدف الإستراتيجي للتغيير في السودان.
الخلاصات تقول لن تقوم للسودان قائمة ما لم تتجاوز كل القوى السياسية المعنية بالتغيير مرحلة فِرية المكوِّنين العسكري والمدني ومرحلة الترويج لتسوية سياسية مجربة مع هذا السرطان الكيزاني الذي تقوده اللجنة الأمنية و مليشياتها الجنجويدية.
برير إسماعيل
كارديف 14 أكتوبر 2022م