الجميل الفاضل:
الثورات تخرج الي حيز الوجود من أضيق نطاق.. كما تخرج من فوهة البركان صغيرة الحجم، أضخم الحمم، واشدها نارا.
و بطبيعة حالها تعيش الثورات من حين لأخر، أوضاع مد وجذر، وتمدد وانكماش.. ربما يطابق حالها وصف “المتنبي” للاسد وهو يقول:
(ما زالَ يَجمَعُ نَفسَهُ في زَورِهِ
حَتّى حَسِبتَ العَرضَ مِنهُ الطولا).
فحالة الثورة، حالة نوع وكيف في المقام الأول، لا تخضع هي بالضرورة لمقاييس الحساب الكمي، أو لمقادير الكيل والوزن.
فالثائر الواحد عندما يعبر بقوة وصدق عن ضمير شعبه.. يصبح هو لوحده “أمة”.. أمة قيد التشكل تنبع من بين جوانح وجدانه الصافي، وتنشأ من التماعات ذهنه الوقاد.
وبالطبع فإن بين المصائب والفوائد علاقة جدلية لا تنتهي أبداً، علاقة تجعل أفضل المزايا تقبع كامنة طي البلايا، وأعظم المنّن ترقد تحت سواد المحّن .
ولذا فإن ضارة هنا، ربما تصبح هي ذاتها نافعة هناك.
وهكذا تمضي الحياة وفق قاعدة تقول: لولا دفع الناس بعضهم بعضا لفسدت الارض، ولهدمت صوامع وبِيّع وصلوات.
إن دينامية الدفع والتدافع والمدافعة، تظل هي سّر الحراك في الوجود برمته، تقدماً وتقهقراً، وفق ميكانزمات داخلية عميقة، تصنع أقدار الناس والحياة.
فالمصائب قد تجمع المصابين، بمثلما أن تناقض المصالح قد يفرق حتي المحبين، علي سنن، تقرب بعيداً كان، وتبعد قريباً أختار او اختارت له الاقدار، أن يصبح بعيداً اليوم.
فالثورات في التاريخ الإنساني هي التي تصنع قادتها، الذين يولدون من رحمها، لا من خارجه.
كما أنه لأي ثورة (غربال) ذاتي عالي الحساسية وآلة فرز داخلية دقيقة، من شأنهما أن يعيدا رسم خارطة طريق الثورة، حينا بعد حين، ومرحلة بعد مرحلة، وفرزا بعد فرز.
فشارع الثورة قادر، بطبعه على ردع، كل من تسول له نفسه الانحراف او الالتفاف على او حول الهدف الأسمى للثورة.
هو شارع يمتلك جرس آنذار عالي الصليل، يخضع لمفعول سحره، كل حزب، او شخص تحايل او تجاوز خطوطه الحمراء.
شارع قادر على ردع واعادة كل من زاغ فؤاده او غوى، الي صواب العقل وجادة الطريق.
انه شارع يمتلك غرفة للتحكم والسيطرة.
ذات مفاتيح عالية الحساسية والدقة، من شأنها إطفاء وسحب طاقة البريق والألق الثوري من اي نزق، ومن كل منحرف.
بل يثبت التاريخ القريب حقيقة انه.. ما شاد احد هذه الثورة المباركة إلا غلبته.
كما هو حالها في ثلاثين يونيو (٢٠١٩)، وكما هو حالها أيضا في ذات التاريخ من العام الحالي.
ليصبح مآل من يرتطم بإرادة شارعها الصلدة في كل مرة، مآل من جاء.. كناطح صخرة ليوهنها، فأوهي قرنه الوعل.
على شاكلة ما رأيناه اول أمس، برهانا بالقول، أو بيانا بالعمل.
حالتي
أشهد ألا انتماء الآن
إلا انني في الآن لا