مقالات
معالم من تاريخ السودان السياسي (1821-2021 (7)
د.عبد الكريم الهاشمي:
1
بعد إعلان الرئيس عبود تنحيه عن السلطة تم تسليمها للمدنيين حيث شكل سر الختم الخليفة بعد تعيينه رئيسا للوزراء في أول نوفمبر 1964م عرفت بحكومة “جبهة الهيئات” ضمت ثمانية وزراء من “جبهة الهيئات” وخمسة وزراء من الأحزاب التقليدية ووزيرين من جنوب السودان مما يعني أن كفة “جبهة الهيئات” ستكون راجحة في مجلس الوزراء وهذا يمكنها من فرض سيطرتها على الحكومة الأمر الذي أثار حفيظة حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي ودفعتهم للسعي لتغيير هذه الحكومة التي عرفت بحكومة أكتوبر الأولى تحت دعوى سيطرت الحزب الشيوعي على الحكومة عبر وزراء جبهة الهيئات الذين ينتمون إلى الحزب الشيوعي. إقتضت التعديلات التي تمت على دستور 1956م ليكون الدستور الحاكم للفترة الإنتقالية إنشاء مجلس للسيادة يتشكل من خمسه اشخاص تدور الرئاسه بينهم شهريا حتى نهاية الفترة الإنتقالية وقد تم تشكيل مجلس السيادة بتاريخ 3 ديسمبر 1964م برئاسة الدكتور التيجانى الماحى. بعد أن إكتملت هياكل الحكومة تم الاتفاق على خارطة طريق تعمل على هداها حكومة الفترة الإنتقالية تمثلت في العمل على حل مشكلة جنوب السودان ومكافحة الفساد وإيجاد حلول للأزمة المعيشية والاقتصادية وإعداد قانون انتخابات ينظم انتخاب الجمعية التأسيسية في نهاية الفترة الانتقالية.
2
حدد الميثاق الوطني الذي أعلنه سر الختم الخليفة في 30 أكتوبر 1964م وهو ما عرف لاحقا بـ “ميثاق أكتوبر” مهام الحكومة الانتقالية حيث نص على أن تنتهي الفترة الانتقالية بانتخابات حرة تشرف عليها لجنة مستقلة تعينها الحكومة الانتقالية لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور. كمل نص على أن تقوم الحكومة الانتقالية بإعداد البلاد لوضع ديمقراطي في فترة لا تتجاوز آخر مارس 1965 مما أدى إلى اضطرابات سياسية إحتجاجا على قصر الفترة الانتقالية إذ ترى بعض التنظيمات السياسية أنها غير كافية لتهيئة البلاد لإجراء انتخابات برلمانية إلا أن مجلس السيادة حسم الأمر لصالح قيام الإنتخابات حيث أصدر قرارا في يوم 7 أبريل 1965م بإجراء الانتخابات في موعدها في 21 أبريل 1965 لقيام جمعية تأسيسية بالرغم من اعتراض حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي على إجرائها.
3
حدث إنقسام بين القوى الثورية أفرز فريقين فريق تتزعمه “جبهة الهيئات” التي يدعمها الحزب الشيوعي وحزب الشعب الديمقراطي وآخر عرف بـ “الجبهة القومية” ويساندها الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة وجبهة الميثاق بلغ التوتر بين الفريقين إلى التظاهر حيث خرجت مظاهرات مسنودة من “جبهة الهيئات” بقيادة الوزاراء المحسوبين على القوى اليساريه في الحكومة حيث هتفت ضد الاحزاب بـ “لا زعامه للقدامى” حيث كانت تهدف الى اقصاء قيادات الاحزاب الكبيرة أو التقليدية المتمثلة في حزب الأمة والإتحادي وجبهة الميثاق. الخلاف بين الفريقين لم يكن جديدا أو مستغربا فقد حدث اختلاف بين قادة “جبهة الهيئات” إبان الحراك الثوري حول مبدأ إشراك كتلة الأحزاب السياسية في قيادة الأحداث وهذا الموقف المتشدد من “جبهة الهيئات” شكل بداية الأزمة بين الفريقين. تفاقم الانقسام في الساحة السياسية حيث وصل حد المطالبة بحل الحكومة وإعادة تشكيلها. إستمرالضغط علي حكومة سر الختم الخليفة لدرجة تسيير المواكب ضدها من الاحزاب التقليدية سيما حزب الأمة الذي هدد بإستقدام حشود من الأنصار إلى الخرطوم من النيل الأبيض وكردفان والنيل الأزرق وبالفعل في يوم 4 فبراير 1965م امتلأت العاصمة بآلاف من الأنصار الذين وفدوا من الأقاليم وهددوا الحكومة وطالبوا باستقالتها. وطافت الحشود شوارع الخرطوم مطالبة بإنقاذ البلاد من سيطرة جبهة الهيئات والشيوعيين وتكوين حكومة جديدة تعبر عن المصلحة الوطنية العليا. وأصدر أحمد المهدي في يوم 16 فبراير 1965 بيانا أكد فيه أن لحزب الأمة “القدرة على تغيير الحكومة إلا أنهم يفضلون حلا مدنيا للأزمة السياسية بالبلاد وإن لم ينجح ذلك الحل السياسي فسيجد حزب الأمه نفسه مجبرا على استخدام القوة”. تحرك الزعيم الأزهري والامام الهادى وتوصلوا لاتفاق مع مجلس السياده يطلب بموجبه من رئيس الوزراء سرالختم الخليفه تقديم استقالته لمجلس السيادة ومن ثم يعيد مجلس السياده تكليفه بتشكيل حكومه جديده تخلو من جبهة الهيئات. وإزاء هذه الأوضاع اضطر سر الختم الخليفة لتقديم استقالة حكومته في 18 فبراير 1965 دون أن تكمل فترتها التي كانت مقررة بستة أشهر فقط حيث تكونت في 14 نوفمبر 1964 واستمرت حتى 18 فبراير 1965.
4
بعد نجاح “الجبهة القومية” في مسعاها لحل الحكومة فرضت التشكيلة التي ترغب فيها وذلك بإلغاء مقاعد “جبهة الهيئات” والعمال والمزارعين. أحدثت استقالة رئيس الوزراء أزمة دستورية في البلاد حيث بقيت البلاد بلا حكومة لمدة ستة أيام. تم تشكيل حكومة ثانية في يوم 24 فبراير 1965 (بعد ثلاة أشهر الأولى) برئاسة سرالختم الخليفة حيث كان نصيب كل من حزب الأمة والوطني الاتحادي وكتلة الجنوبيين ثلاثة وزراء لكل منهم ومقعد لجبهة الميثاق (الاخوان المسلمين). تركت أربعة وزارات شاغرة خصصت منها ثلاث لحزب الشعب وواحد للحزب الشيوعي تملأ فيما بعد في حالة قبولهم المشاركة في الحكومة وقد كان ففي يوم31 مارس 1965م قرر رؤساء الهيئات والأحزاب المنضوية تحت لواء “التجمع الاشتراكي الديمقراطي” وهو الوعاء الذي تشكل بعد تصدع “جبهة الهيئات” والذي يضم حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي والأجسام النقابية التي تبقت في جبهة الهيئات واتحادات العمال والمزارعين قرر شغل الوزارات الأربعة المطروحة عليهم وبرروا مشاركتهم للضرورة الوطنية العليا التي تفرض عليهم المشاركة التي تمثل ضمان لتنفيذ ميثاق أكتوبر. إن التشكيل الجديد لحكومة أكتوبرالثانية والذي سيستمر حتى انتهاء الفتره الانتقاليه فى ابريل 1965 ضمن الغلبة للأحزاب التقليدية في مجلس الوزراء.
5
بدأت جبهة الهيئات في التصدع بعد “ليلة المتاريس” التاسع من نوفمبر 1964 بسبب الخلافات التي دبت بينها وبين “الجبهة القومية” كما أن اعتقاد الأحزاب التقليدية والإخوان المسلمين أن “جبهة الهيئات” أسيرة للشيوعيين ساهم في تصدعها فبدأت الهيئات المختلفة تنسحب منها شيئا فشيئا بحجة أن الجبهة أصبحت خاضعة لسيطرة الشيوعيين مما أدى لإنهيارها الأمر الذي مهد الطريق أمام الأحزاب التي نجحت في تجسيم الخطر الشيوعي في أذهان الناس. يقول محمد أحمد المحجوب “لقد أرغم سر الختم الخليفة على الاستقالة فانهارت جبهة المهنيين ضحية للانتهازية الشيوعية”. ويعزي السيد علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي سقوط حكومة أكتوبر الأولى إلى التعجل الذي صاحب تكونها كما كانت تفتقد للقيادة السياسية الرشيدة وكانت تمثل خليط من وزراء ثوريين ووزراء موظفين عاديين بما فيهم رئيس الحكومة سر الختم الخليفة.
6
لم يطل عمر الفترة الانتقالية إذ لم يتجاوز عمر حكومتي أكتوبر الانتقاليتين سبعة أشهر وهي مدة قصيرة لا تمكن إحداث إنجازات ولعل من المكاسب الكبير لحكومة أكتوبر هو نيل المرأة لحقوقها السياسية.
وضعت حكومة سرالختم الخليفة مشكلة جنوب السودان التي كانت سبباً مباشرا في إندلاع الثورة علي رأس سلم أولوياتها حيث أبدت تسامحا في التعامل مع المعارضين الجنوبيين وضمت في عضويتها اثنين من أبناء الجنوب وأعلنت العفو العام عن المتمردين ودعت إلى مؤتمر لمناقشة قضية جنوب السودان عرف بـ “مؤتمر المائدة المستديرة” الذي إنعقد في مارس 1965م بمدينة جوبا لإيجاد حل حيث إنقسم الجنوبيون في رؤاهم تجاه القضية أثناء المؤتمر إلى أكثر من فريق حيث يرى الفريق لأول أن الحل يكمن في تطبيق النظام الفدرالي Federation الذي يقوم على فكرة قيام دولتين دولة شمالية وأخرى جنوبية لكل منهما برلمانها وسلطتها التنفيذية إلى جانب كفالة حريتها في معالجة الأمور الاقتصادية والزراعية ومسائل التعليم والأمن وأن يكون للجنوب جيش تحت قيادة موحدة للدولتين وهذه الرؤية أقرب إلى الاتحاد الكونفيدرالي Confederation منها إلى الفيدرالية قاد هذا الاتجاه وليام دينق. أما الفريق الثاني فيرى الحل في الانفصال عن الشمالSeparation . هنالك طائفة من الجنوبيين في المؤتمر كانوا يفضلون الحصول على حق تقرير المصير كتمهيد للاستقلال التام وقاد هذا الاتجاه الزعيم الجنوبي أقري جادين رئيس حزب سانو في المنفى. لم تتخذ الاحزاب الشمالية رؤية واضحة حول المقترحات التي طرحها الجنوبيين في المؤتمر لحل النزاع حيث كانت الأحزاب الشمالية ترى أن ينحصر التداول في هذه المرحلة على الاعتراف بحق الجنوب في تشكيل إدارة إقليمية في إطار السودان الموحد وهذا الأمر لم يجد ترحيبا من الاحزاب الجنوبية مما قاد المؤتمر إلى طريق مسدود وفشل في الخروج برؤية موحدة مما زاد من تعقيد الأزمة وعدم الثقة بين الجنوب والشمال.
Krimhashimi5@gmail.com
0912677147