مقالات
التسوية.. عودة “الحرية والتغيير” للسلطة عبر تجريب المجرب
برير إسماعيل:
إنطلاقاً من حكاوينا السودانية التي تقول: (تِلته و لا كتِلته و زوج أمك هو والدك و ما لم يؤخذ كله لا يُترك جله و شيء خير من لا شيء) تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي يسعى للعودة للسلطة عبر تجريب المجرب من خلال الحديث عن الإتفاق الإطاري المؤدي في الخواتيم إلى الإتفاق السياسي بين الطرفين اللذين يدعيان تمثيل كل من المؤسسات العسكرية والأمنية والشُرطية والحركة الجماهيرية الثائرة وهما الجنرالين البرهان وحميدتي وقيادات تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي على التوالي.
من حيث المبدأ لا يمكن لأي شخص يعمل في المجالين الثوري والسياسي أن يرفض الوصول لحلول عبر المفاوضات السياسية المباشرة أو غير المباشرة في المراحل الأولى للتفاوض مع النظام السياسي الديكتاتوري الذي يصارعه ظلَّ ثورياً و سياسياً ودبلوماسياً و فوق كل ذلك يصارعه جماهيرياً.
الشاهد أن القاسم المشترك الأعظم بين غالبية مكوِّنات قِوى الثورة العريضة الرافضة للعملية السياسية الجارية الآن يتمثل في رفض استخدام تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي لذات عِدة الشغل السياسية القديمة التي أنتجت للثوار والثائرات الوثيقة الدستورية الكارثية وهذا يعني ببساطة أن غالبية مكوِّنات الحركة الجماهيرية الثائرة لا ترفض الحل السياسي من حيث المبدأ.
إنَّ التسوية السياسية/ العملية السياسية/ الصفقة السياسية أو سموها ما شئتُم لأن كل هذه التسميات أو غيرها ليست بمشكلة في تقديري فما يهم الحركة الجماهيرية الثائرة والمناضلة في طول البلاد وعرضها وفي الخارج معاً إن كان ذلك النضال سياسياً مدنيَّاً أو نضالاً سياسياً ومسلحاً هي المآلات النهائية لكل إتفاقية سياسية على حدة ومدى علاقة هذه المآلات بالأهداف الإستراتيجية التي قامت من أجلها الثورة السودانية منذ عام الفيل.
تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي أقام الدنيا و لم يقعدها عندما حدث إنقلاب 25 أكتوبر 2021م والذي أدى ببساطة شديدة لفض الشراكة السياسية الصُورية بين التحالف و بين اللجنة الأمنية ولكن المصيبة الكبرى هي غياب الإتساق السياسي لدى غالبية مكوِّنات تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي و لذلك نتساءل عن كيف يرفض تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي الإنقلاب ضد شراكته عديمة الفائدة مع العساكر ويطلق على الذين وقَّعوا على إتفاقيات سلام جوبا رغم نواقصها الكثيرة إسم الإنقلابيين وهذا صحيح بينما يسعى ذات التحالف جاهداً الآن للرجوع لذات الشراكة المعطوبة مع ذات اللجنة الأمنية تحت ذرائع واهية جداً وبالبلدي كدة: ما الذي يجعل مشاركة قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي للجنة الأمنية في السلطة رِجل بينما مشاركة الذين وقَّعوا على إتفاقيات سلام جوبا مع ذات اللجنة الأمنية كراع على طريقة أرفع كراعك من رِجلي؟.
يبدو أن العقلية المركزية التي تريد المواصلة في إدارة شؤون المواطنين والمواطنات في كل أرجاء السودان مركزياً هي العقلية السائدة الآن و لهذا السبب لم يتمكن تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي من فتح حوارات جماهيرية جادة و مفتوحة مع كل مكوِّنات الحركة الجماهيرية قبل الحديث عن الإتفاق الإطاري الخرطومي مهما تمَّ تجميله بل سيكون هذا الإتفاق الإطاري معزولاً خرطومياً بسبب التغييرات السياسية والثقافية والإقتصادية والديمغرافية التي حدثت في الخمسين عاماً الماضية في العاصمة السودانية جراء الحروب العبثية التي قادتها ذات المؤسسات العسكرية المسيِّسة والمؤدلجة بإمتياز عبر تاريخها الدموي الطويل والتي تعتبر طرفاً رئيساً في هذا الإتفاق الإطاري مقطُوع الطاريء على حد قول أهلنا في بحر أبيض.
عموماً التجربة السودانية الطويلة عندما يأتي الحديث عن التوقيع على الإتفاقيات السياسية أثبتت الفشل الكبير لدى غالبيتها والسبب في ذلك الفشل هو أن الطرف القابض على زمام و مقاليد الأمور في البلد لديه هدف إستراتيجي واحد ظلَّ يعمل من أجل تحقيقه من وراء التوقيع على مثل هذه الإتفاقيات المفخخة الخالية من السند الجماهيري للدفاع عنها في حالة النكوص المتوقع الهدف هو فرتقة وحدة الحركة الجماهيرية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الحقيقي في موازين القوى في البلد.
من المحن و الإحن السودانية تجريب المجرب وبذات المقدمات وإستخدام نفس التكتيكات السياسية والأدوات السابقة في إنتظار نتائج جديدة تكون في صالح الثورة.
أهم مرتكز لأي عملية سياسية سودانية قادمة و التي لا مفر منها طال الزمن أم قصر هو تحقيق العدالتين الإنتقالية والجنائية ولكن ما يجري الآن وبكل القرائن السياسية التي أمام الناس لن يساهم في تحقيق العدالتين لأن السلطة المطلقة على المؤسسات المناط بها القيام بهذه المهام العدلية المقدسة ستظل بيد الجنرالين البرهان و حميدتي المتهمين بإرتكاب هذه الجرائم و في المجمل ستظل السلطة المطلقة بيد المؤسسات العسكرية والأمنية والشُرطية والنيابية وغيرها.
المرتكز الثاني الذي يجب أن تقوم عليه العملية السياسية الراشدة لمصلحة الثورة هو إعادة ترتيب أوراق المؤسسة العسكرية السودانية الفاشية التي أنجبت المليشيات العسكرية المؤدجلة المقاتلة لشعبها و هذا الترتيب هو ترتيب سياسي من الدرجة الأولى و ليس ترتيباً عسكرياً بحتاً كما يتبادر للأذهان أو كما تمَّ التسويق له عبر الإتفاق الإطاري.
إلا أن ما يجري الآن قد شرعن لوجود مؤسستين/ مليشيتين عسكريتين لا رابط تنظيمي بينهما وهما الجيش و الدعم السريع و الكل يعلم بأنهما أكبر مهدد للتحول الديمقراطي في البلد بل يمكن القول إنَّ مليشيا الجيش و مليشيا الدعم السريع بوضعهما الحالي يهددان بقاء السودان مُوحَّداً شعوباً و أرضاً.
المرتكز الأهم على الإطلاق الذي يجب أن تقوم على أعمدته العملية السياسية القادمة هو تحقيق السلام الشامل في كل ربوع البلد و هذا الأمر لا يمكن أن تقوم به قيادات عسكرية مجرمة ظلت مختطفة للمؤسسات العسكرية و الأمنية و الشرطية كما في حالة الجنرالين البرهان و حميدتي سيما في ظل غياب وحدة الحركة الجماهيرية الثائرة الذي يراهن عليه الجنرالان الذي يقودان المؤسسات العسكرية عبر مباركتهما لهذه العملية السياسية الصُّورية التي ستأتي على درب مآلات الوثيقة الدستورية ست الإسم.
الحركة الجماهيرية الثائرة لن تقبل أن تفطر على بصلة بعد كل التضحيات التي قدمتها عبر مسيرة الثورة السودانية التراكمية الطويلة الممتدة منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي و في عهد الدولة الوطنية.
عليه ما يجري الآن يمثل بوضوح المرحلة الثالثة من مسلسل الإحتيال و الإلتفاف على الثورة الذي قامت و تقوم به اللجنة الأمنية لنظام الجبهة الإسلامية القومية و التي تلاعبت بدورها بأغلبية مكوِّنات القوى المحسوبة على الثورة عبر المراحل التالية:
-مرحلة الوثيقة الدستورية في 2019م التي مثَّلت قاصمة الظهر للثورة.
المرحلة الثانية هي مرحلة إتفاقيات سلام جوبا بالرغم من عدالة القضية التي ناضلت من أجلها قيادات حركات الكفاح المسلح ولكن التجربة العملية لإتفاقيات سلام جوبا أثبتت بأن هدف اللجنة الأمنية من ورائها كان هدفاً تكتيياً و لم يكن إستراتيجياً.
المرحلة الثالثة هي التي أعقبت إستغناء اللجنة الأمنية لنظام الجبهة الإسلامية القومية عن خدمات قيادات تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي في 25 أكتوبر 2021م بعد الشراكة الصُورية رغم توفر حسن النوايا لدى قيادات الحرية و التغيير المجلس المركزي و لكن حسن النوايا وحده لا يكفي لإحداث تغيير حقيقي في البلد .
– المرحلة الرابعة هي مرحلة إعتماد اللجنة الأمنية على وثيقة لجنة تسيير نقابة المحامين المدعومة من قِبل بعض القوى السياسية في المجلس المركزي لقوى الحرية و التغيير و من بعض الدول في المجالين الإقليمي و الدولي و التي لها مصالح كبرى في إحداث تغيير شكلي في السودان.
يبدو بأن تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي يقوم الآن بدور آل البوربون في السودان لأن القائمين على أمر هذا التحالف لم يتعلموا شئياً و لم ينسوا شئياً و لذلك عادوا بالبضاعة السياسية القديمة الموجودة في الوثيقة الدستورية في أوراق جديدة و لذلك سيتم تكرار ذات المحن و الإحن السياسية التي حدثت في المرحلتين السابقتين ما دام أمر القيادة السياسية و العسكرية للمؤسسات العسكرية و الأمنية و الشرطية و أمر أموالها سيكون تحت إمرة كِبار الجنرالات القتلة أمثال البرهان و حميدتي.
القضية لا علاقة لها بالتخوين و التخوين المضاد و إنما لها علاقة مباشرة بمشروعية تعدد القراءات السياسية لما يجري في البلد من عملية سياسية و بإسم الجميع.
هل ستنجح اللجنة الأمنية في عملية إحداث الوقيعة و القطيعة العميقة بين مكوِّنات قوى الثورة العريضة عبر إستخدام العملية السياسية الحالية كما فعلت الشيء نفسه عندما إستخدمت ذات اللجنة الأمنية الوثيقة الدستورية ست الإسم في عام 2919م أم لا و ذلك هو التحدي الحقيقي الذي سيواجه الحركة الجماهيرية الثائرة? فقد نجحت اللجنة الأمنية من قبل في مسعاها الخسيس و كان الخسران المبين حليفاً لجميع القوى المحسوبة على الثورة.
لماذا تكرر قيادات الحرية و التغيير المجلس المركزي نفس السيناريو السابق و بذات المبررات السياسية الواهية من نوع حقناً للدماء و تلته و لا كتلته و زوج أمك هو أبوك …إلخ*.؟
هل أوقفت الوثيقة الدستورية ست الإسم قتل الثوار و الثائرات و أوقفت سجنهم بلا مصوغات قانونية …إلخ؟ و لماذا لم تحقق الوثيقة الدستورية ست الإسم أحلام و تطلعات الحركة الجماهيرية.؟
الخلاصة تقول إنَّ العملية السياسية مطلوبة بشدة و لكن بأدوات جديدة وفقاً لمنهج جديد وصولاً لإجماع جماهيري حولها بعد عمل جماهيري ضخم غير مركزي لأنه سيكون الضامن الحقيقي لأي إتفاق سياسي راشد قادم رغم أهمية وجود المجتمعين الإقليمي و الدولي في أي إتفاق سياسي قادم.
الخلاصات تقول يجب على جميع القوى المحسوبة على الثورة عدم الوقوع في الفخ الذي نصبته لها اللجنة الأمنية عبر إستخدام العملية السياسية الحالية و هذا الفخ هدفه الإستراتيجي تحويل الصراع من صراع ضد اللجنة الأمنية التي تقود المنظومة الإنقلابية الحالية لصراع بين مكونات القوى المحسوبة على الثورة نفسها.
الخلاصات تقول إنَّ القضايا التي تمّ تحويلها للمرحلة القادمة من الحوار بين اللجنة الأمنية و قيادات الحرية و التغيير المجلس المركزي هي القضايا التي من أجلها قامت الثورة في السودان منذ عام الفيل و لذلك كان لابد من إدراجها في الإتفاق الإطاري و العمل على طرحه على كل مكوِّنات الحركة الجماهيرية الثائرة للإلتفاف حوله بعد أن تضيف و تحذف.
السؤال المركزي هل تعبير تأجيل القضايا الأربع للمرحلة القادمة من الحوار مع العساكر كما ذكرت بعض قيادات تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي المقصود به الحصول على إجماع جماهيري وسياسي للإلتفاف حول الإتفاق الإطاري؟ اعتقد بأن المقصود بتأجيل إدراج القضايا الأربع وبصورة واضحة وجليَّة هو مواصلة الطرفين المتفاوضين اللذين يتحدثان بإسم المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية وهما الجنرالين البرهان وحميدتي و بإسم الثورة و هم قيادات تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي المواصلة في تكملة النواقص السياسية التي تخصهما لوحدهما.
هل سيعرض تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي أي إتفاق سياسي قادم على كل مكوِّنات الحركة الجماهيرية و في كل أجزاء السودان لتقول فيه رأيها بنعم للإتفاق السياسي أو بلا للإتفاق السياسي ولتلتزم بعد ذلك مكوِّنات التحالف الذي يفاوض اللجنة الأمنية حالياً بنتائج هذه العملية التشاورية أم لا؟.
لا أعتقد بأن تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي سيطلب معرفة رأي قيادات وقياديات مكوِّنات الحركة الجماهيرية الثائرة في كل السودان في الإتفاق السياسي القادم لأنه ببساطة شديدة لم يستشرها في الوثيقة الدستورية الكارثية و كما أنه لم يستصطحب رأيها في الإتفاق الإطاري الحالي الذي سيقوم عليه الإتفاق السياسي القادم بين الطرفين الرئيسين وبالتالي فرض عين على الحركة الجماهيرية الثائرة معارضة ورفض ومن ثم العمل على الإطاحة بأي إتفاق سياسي لا يلبي آمالها وطموحاتها و تطلعاتها المشروعة.
كارديف- 3 ديسمبر 2022م