مقالات

النّامُوسِيَّة جَاتْنِي فِي مُرَادْ قَلْبي!!! (١-٢)

دُنْيَا دَبَنْقَا

د.نور الدين بريمة:

أن تقوم بزيارة قرية أو مدينة أو محلية، في ولاية من ولايات دارفور الخمس، فإنّها قطعًا تُبسطك وتريح بالك، لأنها تكون زيارة حُبٍّ وجمال، بكل ما تحمل من معاني الإمتاع، وتشكل جنانًا للأرض والنفس، سيّما محلّيات ولاية جنوب دارفور الجنوبيّة الغربيّة: (السّلام، الرّدُوم، بُرام، السُنْطة، تُلُس، دِمْسُو، عِدّ الغنم وكبُمْ)، ممّا تُشعرك بأنّك جُوّة روضة غنّاء، بحُسن إنسانها وطبيعتها الخلابة، والتي حتْمًا تأسرك بجمالها، وتمتّعك عقلًا ونظرًا، لتدرك حينما تتصفح مناظرها جيّدًا، أن صبغة الله وصنعته هي أحسن الصبغ، لأنها آية من آيات الله.

فطيبة أهل تلك المناطق وجمال أرضهم- لا تضاهيها طيبة وجمال- بإعتبار أن زائرها سيجد نفسه مُترفًا بالخضرة والخير الوفير، وهو يجول بنظره في: (سهولها، وديانها وخيرانها)، الوارفة بالأشجار الغابيّة، تتدلى ثمارها محيِّيَة زائريها صدقًا ووعدًا وتمنّي، فالغابات لم تبخل بل جادَت لنا بثمار: اللالوب، النبق، الجَغْجغ والعرديب، وغيرها من ثمار الأشجار التي رحبت بنا واستقبلتنا خير إستقبال، مثلما أكدت لنا أرضها الحُبلى بالكنوز المعدنيّة والبتروليّة، أنها على قدر الوفاء والعطاء، كما رحّبتْ بنا طينتها العذراء بخصوبتها، وهي ترفع الأكفّ تضرّعًا وإبتهالًا، داعيةً لنا.. أن هلمّوا إلى فلاحي واعملوا وانتجوا.

بالطبع إن التنوّع الغابي، الذي تتميز به تلك المحليات، سيّما الردوم وكبم، ظلّ يشكل غذاءًا مِحْوريًا لكثير من المخلوقات سيما النحل، حيث إشتهرت المحليتين بإنتاج العسل، المعروف بجودته وشفائه لعلل النفوس، ولعلك تمنّي النفس بتذوقه، وترجو ألا يفارق بصرك هذا الجمال، وأنت تجول بخاطرك إلى تلك الغابات، وأسراب المواشي من: (الإبل، البقر والغنم)، وغيرها من الأمم البريّة، تقتات من أوراق الشجر وحشائش الأرض، شاكرةً لأنعُم الله الحيّ القيّوم.

قضينا أيّام ونحن نسوح في جمال أحياء وقرى محلية كبم، بوحداتها الإدارية الثلاث (كبُمْ، مرْكُنْدي وأُم لبّاسة)، جنوب غربي مدينة نيالا، خلال رحلة عمل قضيناها، لثلاث عشرة ليلة بالتمام والكمال، بصحبة وزارتي الصحة الإتحاديّة والولائيّة، وذلك لإنفاذ إستراتيجية الوزارة وشركائها من المنظمات العاملة في الحقل الإنساني، الخاصة بتوزيع الناموسيّات المُشبّعة، لمواطني المحلية، علّها تقيهم من لَسْعة البعوض وشرورها، وشرور غيرها من الزواحف والحشرات السامّة والضارّة بالانسان والحيوان.

ولمّا قرّرنا إبتدار تنفيذ إستراتيجيّة التوزيع، يمّمْنا وجوهنا شطر الجنوب، للوقوف على سير عملية التسجيل، لقرية (دَمْبَا) ضمن قرى وحدة مرْكُنْدي الإداريّة، ولمّا توقفنا عند سوق القرية، تجاذب صديقنا علي الحسين- مشرف المحلية، أطراف الحديث مع أحد كبار السن بالقرية- الشيْب يكسو رأسه- سأل مُسْتفسرًا عن آلية وكيفية التوزيع، فجاء رد المشرف بما يشير إلى أن التسجيل يكون من منزل إلى منزل، وأن كلٍ يجد حظه من التسجيل، كما أن نامسيته تصله إلى بيته بإذن الحي القيوم.

فتبسّم الرّجل ضاحكًا مُستبْشرًا يترقّب ناموسيته، لأن الرد جاء مُثْلجًا للصدر، ووجد القبول والرضَا والإستحسان، ثمّ شكل بلْسمًا شافيًا لجراح غائرات ما لها عدد- منذ غابر ثلاثين عام ونيف من الزمان- بل جاء الرد مُعالجًا لما علِق من أدران النفوس الظالمة، المتمثلة في الطمع والجشع، وهبر أموال الناس بالباطل، وعدم إلحاق الحقوق إلى أهله، ممّا دفع الشيخ إلى إخراج ما بداخله من نفس دافئ، عبّر عن حقيقة ظلت غائبة ومغيّبة منذ أمد بعيد، بقوله: (جِيتْنِي فِي مُرَادْ قلْبِي)، أي أن توزيع الناموسيّات هذه المرة، تكون من بيت إلى بيت وليس كما كان في السابق، وإنها تأتي طائعة دون منٍّ أو رياء.

فجاء الرد مُحقّقًا لرغبات وآمال وتطلعات الكثيرين ممن تحدثنا إليهم، وهم يسترسلون في الكلام- تعزيزًا وتأكيدًا- لذات المنال، وأنه لأول مرّة يتم فيها توزيع ناموسيات بهذه الشفافية، بل وبعضهم زاد بالقول: (زمان الناموسيات دِي، بنسمع بيها سمع بَسْ، وكمان الجماعة الكُبار بتحكّموا فيها، وبيوزّعوها لناسهم بَسْ، والمواطنين المساكين ما بيلقوها إلا في الأسواق، وناس المجالس (مجالس القرى) هم السبب في الكلام دا كله، لأنّو كلو مجلس بياخد كُوتُّه، وما بيوزعها إلا لبعض من ناسو).

ممّا يشي بأن إستراتيجية توزيع الناموسيات المشبّعة هذه المرة، قد حقّقت ما في داخل قلوب الكثيرين وأزالت الأوساخ والغل من أؤلئك المغلوب على أمرهم، لأن دولة المُؤسّسيّة والمواطنة والعدالة، الملبية للحقوق والواجبات- لا محالة تتحقّق- بفعل الثورة الشعبية، وتفاعل ثائراتها وثوارها في الرّيف والحضر، الذين ما آلوا جهدًا في حمل الشموع، لإنارة الطرقات من ظلمة الشُموليّة وعتْمة الأنانيّة والنرجسيّة، المكْسوّة بالفساد، بهدف الوصول إلى الدولة المدنيّة، التي يحلم بها الصغار قبل الكبار، والجُند قبل المدنيين، والرُّعاة قبل المُزارعين، أي يحلم بها جميع المواطنين من سكان الريف والحضر، لأنها تحقن الدماء وتوقف الدّموع، وتدفع الجميع إلى العمل والإنتاج، والعيش في إستقرار وسلام ووئام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق