مقالات
الانقلاب.. وأزمة مصطلحه
عبدالله رزق أبوسيمازه:
في الخامس والعشرين من أكتوبر من العام المنصرم، غدر المكون العسكري بالشق المدني من السلطة الانتقالية، وخان عهد الشراكة بينهما، ونقض ميثاقها وقوض -بالنتيجة- السلطة الشرعية واعتقل رئيس الوزاء الانتقالي مع أعضاء من مجلسي الوزراء والسيادة دون تهمة،ومن ثم أطلق آلة القمع الدموي من عقالها لتحصد أرواح المحتجين السلميين في الشوارع في العاصمة والأقاليم، منذ ذلك الوقت وإلى الآن حتى بلغ عدد ضحاياها أكثر من 118 شهيداً بجانب آلاف الجرحى والمصابين.
فالغدر وخيانة العهود ونقض المواثيق وسفك دماء الأبرياء هي المعادل الأخلاقي لما يحلو للولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية وأخرى آسيوية أن تسميه بالاستيلاء العسكري على السلطة لتفادي استخدام مصطلح الانقلاب العسكري وما يترتب عليه من التزامات سياسية ودبلوماسية، فاستخدام تعبير الانقلاب العسكري ،coup d’etat يرتب التزامات محددة للحكومة الامريكية في مقدمتها المقاطعة وفرض عقوبات على الانقلابيين وهذا ما يتفاداه البيت الأبيض بسبب انغماسه في مشروع التسوية، التي تتطلب تواصلا مع الانقلابيين engagement.
لا يتعلق الأمر بالسودان فحسب وإنما يشمل الموقف من الأوضاع في بلدان أخرى في الجوار الأفريقي مثل تشاد. لذلك يحافظ البيت الأبيض على مسافة بينه وبين الكونغرس الأمريكي الذي استقر عند توصيف التطور الحادث في السودان في 25 اكتوبر 2021 بالانقلاب العسكري coup d’etat، وذلك باستخدام تعبير الاستيلاء العسكري،military takeover، وتعميم استخدامه وسط الدول الصديقة، دول البيان المشترك الـ13 الذي صدر أخيراً، ومع ذلك لم يخل من التعريض بمن أسماهم أصحاب المصلحة الضيقة الذين يناهضون تسوية برعاية إقليمية ودولية توفر للمكون العسكري غطاء للإفلات من العقاب وللانقلاب وللردة عن أهداف ثورة ديسمبر ونهجها ستاراً من الشرعية.
فمحاولة الالتفاف على حقائق الواقع الراهن والتي تبدو وكأنها تعبيرا عن أزمة مصطلح، تستهدف امريكيا توفير هامش مناورة للبيت الأبيض للتعاطي الإيجابي مع الانقلاب وفق مقتضى مصالح واشنطن في المنطقة العربية والأفريقية بما يعزز نفوذها من جهة ويساهم في عزل روسيا والحيلولة دون توسع نفوذها في القارة الافريقية عامة وفي السودان خاصة.
وقد تقوى هذا التوجه مع الغزو الروسي لأوكرانيا حيث صعدت واشنطن ضغوطها على السودان خاصة بموازاة ضغوطها على روسيا الذي وجد نفسه فجأة محاصرا باتهام مساعدة موسكو في تمويل حربها في أوكرانيا عن طريق صادراته من الذهب.
ومن جهتها، فإن طغمة الجنرالات ذوي النجوم الأربع بسبب تدني جداراتها الفنية/السياسية فقد تقاصر مسعاها حتى عن بلوغ أي من قمم كلاسيكيات الانقلابات العسكرية في أفريقيا بما في ذلك مأثرة الملازم جيري رولينغز في غانا أو الشاويش صامويل دو في ليبيريا، فقد بدا انجازها “تصحيح المسار” غير مكتمل خديجا وقيل: “خلاقة”، أو حتى ك”انقلاب زاحف” في نظر البعض، الذي ابتكر وصفة “عكس الانقلاب”. “وقفه” أو “انهائه “، الأخيرة أثارت لغطاً وسط قوى الثورة.
وقد أغرى هذا الفتح الاصطلاحي البعض لإطلاق نداء “العودة إلى ماقبل 25 أكتوبر” تصديقا لتلك الرؤية. لم يتوقف الامر عند مستوى اللغة حسب ففي الواقع، جيء بالدكتور عبدالله حمدوك من المعتقل إلى رئاسة الوزراء مجددا للقيام بالمهمة المستحيلة قلب الانقلاب reversal of the coup وفق شروط الطغمة نفسها بمباركة الترويكا واخواتها.
فما يطفو على السطح السياسي من تلاعب بالألفاظ لا يعدو أن يكون انعكاسا لتضارب المصالح الضيقة التي أشار اليها البيان المشترك للبلدان الثلاثة عشر مصالح القوى الخارجية نفسها،ووالتي تتعارض مع المصالح العليا لشعب السودان.