الشمال النيلي.. مآلات الصراع

علي عسكوري:
أكتب هذا المقال من واقع مسؤوليتي الوطنية كمواطن اولا. الهدف الأساسي للمقال هو تنبيه ليس فقط السلطة الانتقالية القائمة، بل لكل الوطنيين خاصة القوى السياسية والمهتمين بالاستقرار السياسي في البلاد حتى لا تذهب ريحها، لأني أرى شجرا يسير..! يجب التذكير أن هذه ليست المرة الأولى التى اكتب فيها عن قضايا الشمال (النيلي) موطن (الجلابة) المتهم علنا بأنه (كاتل الجدادة وخامي بيضها) بينما يرسف انسانه في فقر مدقع يصدم كل من يزوره رغم أن ذهبه فاضت به خزائن الإقليم وما بعد الإقليم وما تزال قوى داخلية وخارجية تتكالب عليه لتنهب المزيد.
لا أود أن أضيع وقت القارئ في تفاصيل ما يدور من نهب للذهب من جماعات من خارج الولايتين، وقد قدر لي بعض (الدهابة) من أبناء الولايتين أن عدد المعدنيين من خارج الولايتين يساوى ثلاثة أضعاف ابناء الولايتين الذين يعملون في القطاع، و رغم هذه الأريحية في مناطقهم، ليس لأبناء الولايتين الحق في التعدين في ولايات أخرى كثيرة وهو أمر يضر بحق المواطنة المتساوية في مقتل.
من نافلة القول أن المواطنة المتساوية تقتضي بالضرورة حق العمل في أي بقعة من الوطن على قدر المساواة، غير أن الواقع في السودان يخالف أبسط حقوق المواطنة المتساوية فأبناء الولايتين من واقع الصراع ليس لهم الحق في العمل في ولايات كثيرة، وإن خاطروا بالذهاب لها حتى عابرين يتم اصطيادهم لأنهم (جلابة)! تلك هي حقيقة هذا الواقع الصادم.
أمضيت فترة عيد الأضحى في ولاية نهر النيل وبقيت لفترة امتدت لأكثر من شهر قابلت خلالها المئات من القيادات والمهتمين من أبناء الولايتين شملت اللقاءات جميع أنواع الطيف والمكونات المجتمعية، يسار، يمين، وسط لامنتمين الخ.. وأود أن انتهز هذه الفرصة لأشكر كل من حرصوا على لقائي وأطلعوني على معلومات وحقائق عن حقيقة ما يدور في الولايتين وعن تفاصيل كثيرة كنت أجهلها.
قبل ذلك كنت في القاهرة في أبريل الماضي وقابلت الكثيرين من أبناء الولايتين الذين نزحوا للقاهرة كما أنني على تواصل مع كثيرين من أبناء الولايتين في دول مختلفة يكتبون لي باستمرار.
ما لفت انتباهي من واقع النقاشات هو تطابق الأفكار والرؤى بصورة كبيرة إذ أن الغالبية الساحقة من هولاء في الداخل والخارج على قناعة تامة بأن ما يجري لولاياتهم هو عبارة عن (نهب) منظم باسم الدولة، فكل الفوائض التى تخرج من الذهب تذهب لخارج الولايتين، ورغم أن إنتاج الذهب مضى عليه أكثر من عقدين إلا أن واقع الخدمات العامة في الولايتين أصبح مترديا أكثر مما كان عليه قبل إنتاج الذهب.
حسب تقديرات أولية من مصادر مختلفة فإن الولايتين تساهمان بقرابة ال ٧٠% من إنتاج الذهب الكلي، وإذا أخذنا كميات الذهب المهرب بطرق شتى في الاعتبار، ففي الحد الأدنى تنتج البلاد حوالى ١٠٠ طن سنويا، بمعنى آخر فإن الولايتين تنتجان حوالى ٧٠ طنا سنويا يذهب بعضها للدولة ويهرب الكثير، قيمة ال ٧٠ طنا حسب الأسعار العالمية للذهب في يوليو الحالى بواقع متوسط سعر الطن ٧٥ مليون دولار تصبح (خمسة مليار ومئتنان وخمسين مليون دولار)! لا أحد يعلم أين تذهب هذه العوائد الضخمة وفيم تصرف وواقع الحياة والفقر في الولايتين الذى يضرب الجميع والخدمات العامة المتهالكة يغني عن السؤال.
من يذهب الى مستشفى عطبرة أو الدامر أو شندي أو كريمة أو مروي أو دنقلا أو غيرها ومن يذهب لأي مدرسة أو ينظر للطرقات أو خدمات الكهرباء يصدم تماما وسيقول لنفسه أن هذه المناطق هى أفقر مناطق الكرة الأرضية وسيفكر دون شك في جمع التبرعات من الخيرين لأهلها. ذلك هو واقع الحال في الولايتين، موارد تنهب وفقر مدقع يضرب السكان.
والحال كذلك ليس مستغربا أن تتحول همهمات الناس إلى حديث علنى يشير إلى سحب سوداء تتجمع في الأفق، وان وصول العاصفة أصبح مسألة وقت ليس إلا.
يضاف لكل النهب الذي يجري، أن الولايتين تحملتا عبئا ضخما من ملايين النازحين من الحرب، ورغم الضغط الهائل الذي وقع على الخدمات العامة المحدودة لم تقدم وزارة المالية أي دعم للخدمات فيهما لمقابلة الطلب الكبير على الخدمات من تعليم وصحة والطلب المتصاعد لحفظ الامن العام، بل على العكس تماما ظلت وزارة المالية تأخذ المزيد من موارد الولايتين من الزراعة وغيرها وتفرض اتوات اضافية على المواطنيين وعلى الاعمال والشركات وهى اتوات لا يمكن ان يتصورها انسان.. فالواقع يقول ان سكان الولايتين وحدهم من يتحمل عبء المنصرفات العامة للدولة وتغذية الخزينة العامة وهذا عبء تنوء به راسخات الجبال.
من واقع لقاءاتي ونقاشاتي التي اشرت إليها أعلاه، ومن واقع الحراك الداخلي في مجتمعات الولايتين استطيع تلخيص توجهات الصراع في ثلاث مجموعات:
١. مجموعة الدعوة للانفصال من الدولة وإقامة دولة في شمال السودان.
استفادت هذه المجموعة من النتائج الكارثية للحرب والكراهية الاجتماعية التى نتجت عنها، يقتصر طرح هذه المجموعة على أن التعايش لم يعد ممكنا، ولذلك لا داعي للحرب وليذهب كل في حال سبيله حتى تتوقف دواعي التهميش تماما، فكل من يعتقد أن (الشمال النيلي أو الجلابة) يهمشونه عليه أن يذهب لحاله حتى ينجو من تهميش الجلابة له. بلغ الياس بأعضاء هذه المجموعة مبلغا واصبح حديثها مقتصرا على دولة الشمال، وقال لى احد قياداتهم” ما عندنا بيهم شغلة نحن عايزين نعيش في سلام في دولتنا”!
٢.المجموعة الثانية يقوم طرحها على السيطرة تماما على الموارد لأن قسمة الموارد الحالية غير منصفة وإلى أن يتم تغيير النسب الحالية يجب وقف التعدين وكل الأتوات التي تفرضها وزارة المالية على سكان الولايتين، لأن الكثير من سكان الولايات الأخرى لم يعودا يساهمون في الدخل القومي بشىء، أما لخروج مناطقهم عن سلطة الدولة أو نتيجة للفوضي الأمنية وقد نتج عن ذلك تحمل سكان الولايتين عبء المنصرفات العامة لدولاب الدولة إضافة لاستمرار نهب الموارد الذي اشرنا له، تعتقد هذه المجموعة أن وزارتي المالية والمعادن يستهدفان إفقارهم عن قصد من واقع إصرارهما على التمسك بقسمة ضيزى للموارد إضافة لتحميل مواطنى الولايتين عبء تكاليف الحرب ودولاب الدولة بفرض أتاوات مفرطة عليهم مما زاد من فقرهم. يذهب هولاء أبعد من ذلك ويتهمون وزارة المالية صراحة بأنها تقوم دون تفويض من الولايتين ببيع نصيبهما البائس من الذهب، ثم تتحكم في تحويلات العوائد في الوقت الذى يناسبها، ويرى هولاء ضرورة أن يكون كل ذهب الولايتين عندهما على أن تتم عمليات البيع بمشاركة الولايتين مع الشركة السودانية ثم يتم تحويل نصيب وزارة المالية بعد البيع، بناء على ذلك يقول هولاء إن وزارة المالية تنهبهم مرتين، مرة في منح الولايتين (عطية مزين) من ذهبهما، والمرة الثانية عند تصرف المالية في نصيبهما البائس بالبيع دون تفويض! ويرى هولاء أن تسليم الولايتين نصيبها ذهبا يمكنهما من توفير احتياطات كبيرة تمكنهما من توفير ضمانات مالية للاستدانة داخليا أو خارجيا لتطوير الحياة فيهما وخلق المزيد من الفرص للشباب.
لاحظت أن طرح هذه المجموعة يجد قبولا واسعا بين المواطنين خاصة الشباب الذين يعانون ضنك العيش والفقر ويتساءلون لماذا يعيشون في كل هذا الفقر وولاياتهم تنتج الذهب؟
٣. المجموعة الثالثة يقوم طرحها على (ترك الجمل بما حمل) للدولة السودانية والانضمام لمصر.
يقوم طرح المجموعة على أن اصلاح الدولة السودانية أمر ميئوس منه، وأن تجربة المجرب تقود إلى الندامة، ويقولون إن هنالك مجموعات كثيرة داخل الدولة الحالية لا هم لها سوى التمرد على الدولة وإضعافها بغية الوصول للسلطة، وأن هذه المجموعات لا يمكنها وصول السلطة بالطرق الديمقراطية لذلك تفتعل أسباب التمرد لتنال ما ليس من حقها، ويضيفون الى ذلك أن شمال السودان أقرب وجدانيا للشعب المصري أكثر من مجموعات داخل السودان إضافة للتصاهر الكبير والمصالح التجارية وغيرها.
يلاحظ أن هذه المجموعة نشطة جدا وبدأت في بناء شبكات داخل الولايتين لطرح رؤيتها والدعوة لها علنا.
يعزز طرح هولاء قولهم إن اجدادهم قتلوا من ذات المجموعات المتمردة حاليا و لم يوقف تلك المقتلة إلا الاستعمار، ثم عادت ذات المجموعات لتقتلهم وتنهب ممتلكاتهم و تدمر حياتهم، وأن هنالك مجموعات سكانية لا هم لها سوى التمرد على الدولة وابتزازها لجني المكاسب، ولذلك فالمسؤولية تقتضي عليهم حماية الأجيال القادمة من ما حاق بأجدادهم وبهم..! ويدللون على ذلك بأن هنالك حوالى ١٠١ حركة متمردة في إقليم واحد تدعي كلها التهميش وتريد نصيبا في السلطة والثروة ومتى ما حلت الدولة مشكلة مع بعضها فرخت ذات الحركات حركات أخرى وهكذا دواليك، كما ان بعض هذه الحركات فرض علي سكان الولايتين اتفاقا لم يستشاروا فيه ولم يقبلوا به وتريد الدولة حملهم حملا على الموافقة على تنفيذه! وهكذا – كما يرون- أن حل المشكلة مع كل هذه الحركات يعد من رابع المستحيلات ولذلك الأفضل الانضمام لدولة مستقرة لا يفرخ مواطنوها تمردا جديدا كل يوم… و هكذا تمضي سرديتهم.
هذا باختصار ما خلصت إليه من تفاصيل صراع وحراك اجتماعي يحتدم داخل الولايتين لا أحد يعلم مآلاته. ربما تكون هنالك مجموعات أخرى تقدم طرحا رابعا أو خامسا، ولكن على أي حال لم اسمع حتى الآن بها و لكن هذا لا يني أنهم موجودون.
قصدت من هذا المقال تنبيه الدولة والمهتمين إلى أن هنالك صراع يختمر وقد قارب نقطة الانفجار إن لم يتم تدارك الأمر والنظر في مسبباته ومعالجتها بصورة عاجلة، أما ترك الأمر على ما هو عليه فهو بمثابة الوصفة السحرية لتفجر الصراع.
حقيقة استصعب علي استكانة مآلات هذا الصراع، لكن الثابت أن سكان الولايتين يحسون بظلم كبير يقع عليهم وأن حقوقهم مهضومة وأنهم مستهدفون من المليشيا ومن مجموعات أخرى تسعى لإفقارهم بإخراجهم من مناجم ذهبهم تحت تهديد السلاح الذي مدتهم به الدولة.
وقبل أن تقع الفأس في الرأس كما يقال، أرى أنه أصبح لزاما على الدولة الجلوس مع ممثلين لسكان الولايتين والنظر في مظالمهم والاستجابة لمطالبهم ضمانا لاستقرار الوطن فحدوث أي صراع في شمال السودان يعني ضياع البلد، ذلك هو المنزلق الذي لا يعلمه الكثيرون.
خلاصة القول أن هنالك احتقان شديد وسط (جلابة الشمال النيلي) وأن سياسة الدولة السابقة القائمة على انتظار الصراع حتى ينفجر ثم بعد ذلك تتحرك هو ما أورد بلادنا المهالك، وان تجنب هذا الصرع ما زال ممكنا ان نهضت الدولة بمسؤولياتها لرفع المظالم ورفض الابتزار وتوخى العدالة.
هذه الأرض لنا
٨ يوليو ٢٠٢٥م



