إسماعيل جبريل تيسو:
وتزداد قناعتي يوماً بعد يوم، بأن الحرب الجارية في السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023م ليست سوى تدبير وحكمة ربانية بالغة، للتعافي من أورام خبيثة وأوبئة فتاكة ظل يشكو منها جسد السودان سنين عددا، ويتأكد لي كل يوم أن هذه الحرب إنما هي قطرة أولى لهطول مطر يتنزل حجارة من سجيل، تدكًّ عروش الطغاة من حكام المنطقة، وتجعل عاليها سافلها، وتحيل صلفهم وغرورهم عصفاً مأكولا.
نعم لقد كانت المؤامرة كبيرة جداً، حِيكت بليل، ولكن وجه النهار كان لها بالمرصاد، فتم وأدها في مهدها، لينقلب السحر على الساحر، ويهلك الذي كفر قبل أن ينفِّذ أجندة قوى إقليمية ودولية تتربص بالسودان شراً مستطيرا، فها هي الأرض تهتزُّ تحت أقدام كل من كان سنداً وعوناً وعضداً لفكرة تفكيك منظومة القوات المسلحة السودانية وتمزيق أوصالها تحت أكذوبة مضحكة ألا وهي تحقيق الديمقراطية التي هي بريئة من هذه الفرية براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
النيجر وأثيوبيا وكينيا وأفريقيا الوسطى، شاركت جميعها كلٌّ بسهمه، في إشعال نار الفتنة ومحاولة إحراق السودان مقابل (دراهم) معدودة كانت ثمناً بخساً لخيانة الأواصر والروابط الأزلية التي كانوا فيها من الزاهدين، (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)، فقد رأينا كيف ملأ الله بيوتهم ناراً، فغابت شمس الحكم والسلطة عن بعضهم، وانشغل البعض الآخر بمكابدة تداعيات الحرائق ومحاولة إطفائها قبل أن تأكل أخضر سطوته ويابس فساده في الأرض.
لقد اقتصَّ الله للمظلومين من أهل السودان، والأيام حبلى بالمزيد من آيات الله وقدرته على زلزلة المجرمين والظالمين، (كل يوم هو في شأن)، ولكنَّ شأن الحكومة السودانية لم يكن متماشياً مع حجم وفداحة المؤامرة التي حاكت خيوطها دول كنا نظنها صديقة وشقيقة وذات علاقات ووشائج عريقة، فقد عجزت الحكومة من أن تحرّك ساكناً في بحيرة هذا الاستهداف الممنهج لمسح السودان من خارطة الوجود، فظلت مكتوفة الأيدي، في وقت كانت فيه كل أصابع الاتهامات تشير بالأدلة والمستندات والبرهاين ( جمع برهان) إلى ضلوع دولة بعينها في التخطيط والدعم والإسناد مالياً وإعلامياً، وتركت أمر التنفيذ لربائبها من دول المنطقة.
لقد استحسن الشعب السوداني قرار رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان برفض وجود رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرث واعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، وكنا نتوقع قرارات بذات الشدة والبأس بطرد كل البعثات الدبلوماسية للدول الضالعة في إشعال فتيل الفتنة، وتوقيف وتعنيف أؤلئك السفراء الذين انتقلوا بخبث لممارسة العمل ( الدبلوماسي) من مدينة بورتسودان العاصمة المؤقتة للحكومة في ظل الحرب، ولكن ذلك لم يحدث ربما لشيء في نفس (البرهان).
ثم جاءت الطامة الكبرى، عندما تعاطت وزارة الخارجية سياسياً وليس دبلوماسياً، مع موقف منظمة الإيقاد حول ملف السودان، فبدلاً من أن ترفض وزارة الخارجية دعوة رئيس الإيقاد الرئيس الكيني (وليم روتو ) إلى نشر قوات أجنبية في البلاد لحماية المدنيين وتهدد بالانسحاب من المنظمة الإقليمية، كان الأجدى لها أن تفنِّد دعاوى الإيقاد بإعمال الدبلومسية الرسمية وكشف المواقف المنحازة والفاضحة والأجندات الواضحة للرئيس الكيني صاحب المصالح والعلاقات المالية المشبوهة مع قائد ميليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
فقوات إيساف التي طالب الرئيس الكيني بنشرها في السودان، هي فرقة شرق أفريقيا للقوة الأفريقية الجاهزة، والتي تتكون من خمسة فرق، هي فرقة الشمال، فرقة الشرق، فرقة الوسط، فرقة الغرب وفرقة الجنوب الأفريقي، حيث تتبع كل فرقة لإقليم، وتتبع قوات إيساف مباشرة لمجلس السلم والأمن الافريقي، وقد تأسست بناءاً على البرتكول المنشيء لمجلس السلم والأمن الأفريقي بوجود أليات تعمل على تسهيل عمل المجلس بما فيها الآليات الناعمة والتي يقصد بها وحدة الإنذار المبكر، مجلس الحكماء الأفارقة، إضافة إلى الآليات الصلبة المتمثلة في القوة الأفريقية الجاهزة إيساف.
إذن إيساف تتبع مباشرة لمجلس السلم والأمن الأفريقي وتأتمر بأمره وليست لها صلة بتوجيهات وتوجهات منظمة الإيقاد، الأمر الذي يضع مطالبة رئيس الإيقاد الرئيس الكيني وليم روتو، بتدخل هذه القوات في السودان، على المحك ويعكس مدى جهل الرجل ببرتكول هذه القوة وطريقة عمل الآلية، ويشير في الوقت نفسه إلى محاولة خبيثة من الرئيس روتو لتضليل المجتمع الدولي وخداع العالم بأن هناك قوة جاهزة تتبع للإيقاد، قادرة على إيقاف العنف في السودان.
ولعل من المهم أن نشير إلى أن واحدة من الإجراءات العادلة التي يتخذها مجلس السلم والأمن الأفريقي في نشر القوة الأفريقية الجاهزة، هي البعد عن نشر قوات من نفس الإقليم أو من إقليم مجاور، وذلك خشية تقاطع المصالح، وبما أن السودان مصنف من دول شرق أفريقيا، فيمكن نشر قوات من ( ساداك أو إيكواس) وهي قوات من الغرب الأفريقي أو من الجنوب الأفريقي، وليس من الشمال المتاخم للشرق، أو من الوسط، ناهيك عن قوات الشرق نفسها والتي تعتبر القوات السودانية عمودها الفقري في الوقت الراهن.
وعلى هذا النحو الإيجابي ينبغي أن تمضي الحكومة السودانية في فضح كل المؤامرات والدسائس التي يحيكها العملاء والخونة والمرتزقة، بما في ذلك القوى والنخب السودانية التي مارست الغباء والجنون السياسي، فنفخت في شراع الكذب والتضليل ونشر الترُّهات والأباطيل حتى قادت سفينة ميليشيا الدعم السريع إلى الغرق في مستنقع الحرب، فأصبحت هذه النخب كالمُنبت لا أرضاَ قطع، ولا ظهراً أبقى، فخابوا وعجزوا عن تحقيق حلمهم بالوصول إلى سُدة الحكم على أكتاف الميليشيا المتمردة، وخسروا في الوقت نفسه رهان من كانوا يناصرونهم من أجل تحقيق دولة الحرية والسلام والعدالة.