إسماعيل جبريل تيسو:
وبمثلما فعل معظم السودانيين الذين فرُّوا من جحيم الحرب شمالاً إلى جمهورية مصر العربية، كانت وجهة رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى القاهرة أيضاً، في زيارة تأريخية تكتسب أهميتها لكونها الخروج الأول للبرهان عابراً حدود الوطن منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل من العام 2023م.
لقد اختار السودانيون الفارون من الحرب اللجوء إلى جمهورية مصر العربية لعدة اعتبارات أهمها التأريخ المشترك والذي يغذِّي ( صُرَّة ) التقارب الاجتماعي والثقافي والسياسي ويضرب بعيداً في جذور هذه الروابط الأزلية والتي تمتد منذ مئات السنين، حيث عاش شعبا البلدين في شمال الوادي وجنوبه تأريخاً يكاد يكون مشتركاً في كل تفاصيله.
لقد أعطى البرهان مصر حقها السياسي والدبلوماسي، واختارها لتكون وجهته الأولى التي يممم شطرها وجهه عقب اندلاع الحرب وفي ظل تداعيات خروجه الكبير، وكأني بالبرهان أراد بهذه الخطوة أن يجدد التأكيد على أهمية وأزلية العلاقات التي تربط الخرطوم بالقاهرة، فشكر مصر حكومةً وشعباً على استقبال أفواج السودانيين الفارين من الحرب.
لقد كانت القاهرة كالعهد بها وفيةً للخرطوم، بفتح ذراعيها لاحتضان الفارين من جحيم الحرب، بعد رحلة طويلة، ومشقة مريرة، وتجارب وقصص مثيرة، ومعاناة خطيرة، لم تجد مصر حيالها إلا أن تُربِّت على أكتاف السودانيين المغلوب على أمرهم، فتمسح أدمعهم، وتخفض لهم جناح الذُلِّ من الرحمة، فتُطعمهم من جوع، وتُأمِّنهم من خوف.
وصول القائد العام للجيش السوداني إلى القاهرة قطع ألسن كل دعاة التضليل وحارقي بخور الكذب وإطلاق الأباطيل، بأن البرهان خرج من من ” محبسه ” بالقيادة العامة وفق صفقةٍ يتوجه بموجبها إلى جدة للتوقيع مرغماً على اتفاق أمني لوقف الحرب مع ميليشيا الدعم السريع المتمردة، واتفاق سياسي لاستئناف العملية السياسية مع المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير.
لقد بدا البرهان في القاهرة أكثر ارتياحاً وتحرراً نفسياً، وتماسكاً فكرياً وهو يدعو من خلال تصريحاته، العالم إلى النظر للحرب الدائرة في السودان نظرة موضوعية صحيحة، وهي رسالة لمن تعتمل في دواخلهم أهواءاً ومنافع تُملي عليهم اتخاذ مواقف متحيزة حيال ما يجري في السودان، على شاكلة موقف “الإيقاد” وبعض دول الجوار الإقليمي التي تربطها مصالح مشتركة مع ميشيليا الجنجويد.
ولم ينسَ القائد العام للقوات المسلحة السودانية أن يرسل من ” أم الدنيا” تطمينات ذكية إلى من يهمه الأمر، بعدم نزعة الجيش ورغبته في الاستمرار في السلطة، بل ذهب البرهان أبعد من ذلك عندما رسم خارطة طريق لمسار مرحلة ما بعد الحرب، بالسعي لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في نهاية الفترة الانتقالية، ليختار من خلالها السودانيون من يحكمهم، ويؤسسوا لدولتهم المدنية كاملة الدسم.
شخصياً أرى أن زيارة البرهان إلى مصر، مثلت فتحاً جديداً ومبيناً، غفر به كل ما تقدم من أخطاء وعثرات وغفلات، استغلها قائد ميليشيا الدعم السريع للتمدد والتجبر والتطاول على الجيش، فظنّ أنْ لنْ نقدر عليه، حتى فعل فَعلَته التي فعل في صبيحة الخامس عشر من أبريل الماضي، فكان من الهالكين.
شكراً مصر التي تؤكد في كل يوم حرصها على سلامة وأمن واستقرار السودان الذي يعني استقرار مصر، ذلك أن البلدين ينطلقا من الثوابت التاريخية، والجغرافيا السياسية، والروابط الحضارية والجوار المتداخل، والحدود المشتركة، فالقناعة الراسخة لدى القيادة العليا في البلدين تؤكد أن مصر والسودان يمثل كل واحد منهما عمقاً استراتيجياً بالنسبة للآخر،،
إنما مصرُ
والشقيقُ الأخُ السودانُ
ظلّا لخافق النيل صدرا
حفظا عهـدَه القـديمَ
وشـادا منه صيتاً
ورفعـا منـه ذكـرا
كيف يا قومنا
نباعد من فكرين
شدّا وساندا
البعض أزرا.