عادل حسن:
الهجرة هي مقصد للأمان للذين هجروا من أوطانهم والاغتراب البحث عن توفير الرفاهية ورغد العيش وتحسين الأوضاع ومترفات الحياة وما بينهما بون شاسع للاستيعاب.
ونجد بأن القوميات والملل العربية أول من بدأت الهجرات والاغتراب على كوكب الأرض منذ الهجرة إلى بلاد الأحباش دون شعوب غرب البحار وأهل التجمد والجليد وأصحاب العيون الخضراء.
وهنا نجد بأن أهل السودان هم الشعوب البكر الذين مزقوا وفجوا قماشة الاغتراب عند صدر الستينيات ثم تلاهم أهل لبنان وهجرتهم إلى بلاد الباسفيك ودول الامريكتين ولكن أهل السودان يمموا وقصدوا المملكة المتحدة والجزر البريطانية المشمسة.
وفي لندن كان هناك مقر سكن جماعي اسمه بيت السودان يتبع لحكومة السودان وفي هذا البيت كان يقيم الشاعر الدبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم وكان معارضا سياسيا لنظام حكم نميري ومعه دكتور دقش والشريف حسين الهندي ومحمد صالح عمر ومهدي إبراهيم وكانوا أوفياء للوطن حيث يذهبون كل يوم ثلاثاء إلى مطار هيثرو اللندني لأجل مشاهدة الطائرة السودانية سودانير وهي رمز السودان وتهبط في لندن صباح الثلاثاء من كل أسبوع وهم ينظرون لها وهي على مدرج المطار وأيضا تحمل لهم المنتجات السودانية المرسلة لهم تحت عناوين وسيطة.
والآن المنتجات السودانية على (قفا من يشيل) في شارع غبيرا العام ولا اهتمام لها في ثقافة المغتربين الجدد.
المهم نقول كانت ليلات لندن عامرة بالنشاطات السودانية المتعددة للجالية السودانية في لندن السبعينات ومقدم المثقفين والاعلاميين السودانيين الطيب صالح، أيوب صديق، محمد خير البدوي وإسماعيل طه، جهابزة البي بي سي وهنا لندن حيث كان هناك تفاعل العلاقات في غربة تحت الصفر للحرارة والتجمد وباتت لندن من أعظم وأول مدن الغربة لملم شمل السودانيين وتعارفهم في الشتات ومن لندن انتشرت ثقافة المنتديات والروابط الاجتماعية والرياضية ومقار المناسبات العامة والنشاطات كلها انتقلت إلى بقية الجاليات العربية في أوروبا.
ولكن بعد انقضاء تلك الملتقيات لأهل السودان مع بعضهم تكون بعدها الوحشة والعزلة حاضرة بكل خشونتها الاعتبارية وينعدم السؤال عن الصحاب وأحوالهم حتى أشعار ملم آخر بلا تاريخ ميعاد.
ونذكر كيف عانى المثقف والشاعر الدبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم، من هذه الجفوة الاجتماعية من أصدقائه في الغربة حتى قرر السفر إلى دولة غانا في غرب افريقيا ولم يعرفه ويودعه أحد، سافر إلى المعهد الأفريقي للدراسات الدبلوماسية في مدينة اكرا وهناك تضاعفت عليه لواعج الشوق وتباريح الغربة المركبة، وفي عصرية خريفية أفريقية تشبه سماء السودان عكر ورياح وأمطار كتب صلاح أحمد ابراهيم قصيدته الملتاعة بالشقاوة وعامرة بالحن والأنين (الطير المهاجر)، تلك القصيدة الباكية بالعمر والشوق للوطن والنيل والحبيبة وحملها إلى الطير المهاجر تحت المطر.
نعم أصبحت هذه الأغنية تشكل حائط مبكى لكل السودانيين يقص الأكباد ويعطن العيون بملوحة الدميعات.
بعدها كتب صلاح أحمد إبراهيم في مجلة الدوحة القطرية مقالة رصينة وعميقة الشجن والعتاب مقالة مقروحة الخاطر يشكو فيها جفوة أصدقائه وأصحابه له وهو في غربته المركبة مابين غانا وانجلترا
وكتب له مواسيا المثقف الضجة الجهير السيرة علي المك، مؤكدا له بأن أهل السودان أو البعض منهم حتى علاقاتهم أصبحت موسمية ولكنها أيضا مفرحة ومبشرة.
نعم إن حال أهل السودان في سبعينات لندن انتقل الآن إلى رياض الألفينات، وتكاد حتى لاتسمع صوت صديق وأنت مريض تكابد جرحين.
أين غابوا؟ لاتدري أين سافروا ؟ لا تدري أين تواروا ؟ لاتدري.. فالرياض هنا عامرة بالملمات والضحكات والابتسامات فصادرها الزمن اللئيم وحتى مقاهي المؤانسة باتت خاوية يسكنها الغياب، فهناك زميل عند أقاصي الرياض يعافر ليل الوحدة وزميل في وسط المدينة يتحرى مقدم صديق باعدت بينهما أسابيع الجفوة.
نعم نعيش وندرك هناك استهلاك للعمر تحت طاحونة الدوامات ولكن الأيام تسألنا من كان يزور ويتفقد الشاعر محمود سامي البارودي وهو يعافر قسوة المنافي وهو ينسكب في تمزق
أعيش في غربة
لا النفس راضية بها
ولا الملتقى من شيعتي كثب
فلا رفيق تسر النفس طلعته
ولا صديق يرى مابي فيكتئب.
نعم نزف البارودي وكتب طيف سميرة في ظل وحشة كاملة وعتمة مقيمة
ولكن ماذا يكتب قسم خالد ومحمد إدريس ومفتي محمد سعيد
فقط نردد معهم:
غريب والغربة سترة حال
غريب والغربة أقسى نضال
والإهداء إلى الأصدقاء والصحاب وكل الأهل بالرياض
الرياض/ ٢٤ أغسطس/ ٢٠٢٤م