محمد وداعة
تشهد مضابط لجنة الترشيحات باننى ولآخر لحظة سجلت تحفظ حزب البعث السودانى على اختيار د. عبد الله حمدوك لمنصب رئيس الوزراء ، و بينما وافقت كل الكتل على الترشيح ، كان الإمام رحمه الله ممانعا وهو السبب الذى جعل كتلة نداء السودان تكون آخر الكتل التى وافقت على ترشيحه ، حتى ذلك الوقت كانت قوى الحرية و التغيير تنتهج نهج التوافق والاجماع فى اتخاذ القرارات ،و كان تحفظ حزب الأمة والبعث السودانى كافيا لعدم الموافقة بالرغم من أن بقية مكونات الكتلة (بصمت) منذ وقت مبكر على ترشيح حمدوك وهى (حزب المؤتمر السودانى والوطنى الاتحادى والحزب القومى والتحالف السودانى وحركة حق والمحاربين القدامى ) ، و مع ذلك و بعد موافقة الامام الراحل ، نقلت لاجتماع لجنة الترشيحات موافقة الكتلة مع تحفظ حزب البعث السودانى حرصا على وحدة الكتلة و عدم إعاقة تعيين حمدوك رئيسا للوزراء.
فى يوم وصول الدكتور حمدوك جاء مباشرة لمقر تجمع المهنيين فى قاردن سيتى و كنا فى استقباله ، و صافحته قائلآ ان تحفظنا ليس قائما على شخصه ، و انما كان بسبب تبنى الكتلة منذ البداية لترشيح الدكتور منتصر الطيب ، قلت له (الآن انت رئيس وزراء كل السودانيين)، و ظلت العلاقة بيننا طيبة ، و تواصل مستمر من أجل المصلحة العامة ، و الحقيقة انه كان متمسكا بهذه العلاقة برغم محاولات سلك المستمرة لإفساد العلاقة بعد أن اصبح وزيرا لمجلس الوزراء.
حظى الدكتور حمدوك بقبول لم يجده أي رئيس وزراء قبله، ووجد مساندة تكاد تكون اجماعا عليه ، لا سيما الذين عارضوا تعيينه رئيسا للوزراء ، بل وحتى من الإسلاميين ، و كانت لديه فرصة فى أن يكون رئيسا لكل السودانيين، تعرض حمدوك لضغوط وانتقادات حادة حتى من الذين كانوا يقبلون اليه نهارا و يدبرون عنه ليلا، و تصاعدت الخلافات و الصراعات فاطاحت بحكومته الأولى ، و لم تفلح حكومة المحاصصة الحزبية فى اتقاء الازمات ، بل كانت هى سبب الأزمة التى اطاحت به فى 25 أكتوبر.
كان فى مقدوره و من حقه إقالة الحكومة ، أو على الاقل إبعاد الوزراء الذين تسببوا فى التصعيد مع المكون العسكرى ، قابلته يوم 23 اكتوبر ، وكنت قد نشرت مقالا قبلها بأيام تعليقا على انقلاب بكراوى تحت عنوان ( إلى اللقاء فى الانقلاب القادم ) ، سألنى السيد رئيس الوزراء ( هل فى انقلاب قادم ؟ )، قلت هذه الأجواء تنذر بانقلاب وشيك، قال بماذا تشير ، قلت له ( حل الحكومة ) ، قال ( احتاج أسبوعا) ، قلت حتى ذلك الوقت عليك بإقالة من خاطب القوات المسلحة ودعاها للتمرد على قائدها.
فى مساء نفس اليوم و كنت حضورا قابل أطراف السلام و الكتلة الديمقراطية فى حضور مستشاريه و مدير مكتبه ، فاشاروا عليه بحل الحكومة بما فيها وزراء كتلة السلام ، تباطأ حمدوك و حدث .. ما حدث،
تمنيت لو نأى حمدوك بنفسه عن الانحياز لأي من أطراف الصراع ، وأن يحافظ على مكانته لدى كافة السودانيين ، لكن مؤشرات هذا الانحياز جاءت واضحة بعد تقديمه لمبادرة ( الطريق للأمام ) ، و رغم تقديمه مبادرة للجميع ، إلا أنه نكث عن وعده وحضر مؤتمر 8 سبتمبر 2021م بقاعة الصداقة الذى كرس لاول مرة الانقسام داخل قوى الحرية و التغيير .
حمدوك كان فى مقدوره إكمال هياكل الحكومة الانتقالية بإنشاء المفوضيات والمحكمة الدستورية، وتكوين المجلس التشريعي، و كان ممكنا المحافظة على وحدة قوى الحرية والتغيير ، و ذلك بأن يتمسك حمدوك بتنفيذ الوثيقة الدستورية التي جاءت به رئيسأ للوزراء ، وأن يتمسك بصلاحياته المنصوص عليها فى الوثيقة الدستورية ، وأن يكون على مسافة واحدة من جميع الفرقاء ، و لكنه مع الأسف لم يفعل.
تراجع حمدوك عن اتفاق21 نوفمبر مع برهان، وهو الاتفاق الذي وفر فرصة نادرة لاستعادة الحكم المدنى ويسمح باستئناف العملية السياسية، تعرض لضغوط لم يستطع مقاومتها من ذات المجموعة التي نصبته رئيسا فى أديس ابابا للتخفي خلفه والمتاجرة بمكانته، فوقع فى فخ الانحياز مرة أخرى وهو ما يعيق قيامه بأي دور منتظر، وأسرف فى السماح باستغلاله ، فما كان له أن يخاطب مجلس الأمن بصفته رئيس الوزراء السابق ومعه نفر من وزرائه السابقين رافضا السماح لرئيس مجلس السيادة بمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، و ارتكب خطأ جسيما مرة أخرى بمخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة مطالبا بالإبقاء على بعثة (يونتامس)، وهذه المرة باسم مجموعة أديس (تقدم) ، حمدوك كان رئيسا للوزراء فلم يستطع حل الأزمات بقوة منصبه ومعه يونيتامس وفولكر، والمنطق يقول إنه لا يستطيع ذلك الآن.
انصحه إن كان يقبل النصيحة بالانسحاب من رئاسة مجموعة (تقدم) ، فهي إن لم تنتقص منه فلن تضيف إلى سيرته الذاتية شيئا ، و أن يحافظ على ما تبقى له من احترام، و ان ينأى بنفسه عن الصراعات. حمدوك من رئيس وزراء إلى رئيس شرفى لمجموعة سياسية، إنه بهذا يقلل من شأنه .. وهذا شأنه.
30 نوفمبر 2023م