إسماعيل جبريل تيسو:
من جديد يحملني طائر الكتابة محلقاً بي فوق سماوات وزارة الخارجية التي ظللنا نؤكد دوماً على دورها الاستراتيجي المهم في الراهن الماثل من خلال الاضطلاع بمهمة التبشير بتسوية كافة الأزمات عبر مسارات سياسية ودبلوماسية متوازنة تسعى داخلياً لإخماد بؤر التوتر ونزع فتيل الصراعات وترسيخ مفاهيم استعادة الأمن وتعزيز السلام والاستقرار، وبناء ركائز التنمية والإعمار، بما يلبي طموحات وتطلعات جماهير الشعب السوداني.
وعلى المستوى الخارجي نتطلع إلى وزارة تحترم قواعد الشرعية الدولية من خلال إعمال سياسة خارجية حكيمة ورؤية ثاقبة للقيادة السياسية فى التحرك الخارجي على المستوى الدولي والإقليمي انطلاقا من مباديء الاحترام المتبادل وتعزيز التعاون والمصالح المشتركة، والتعاطي بندية بما يحفظ استقلال الدول دون المساس بسيادتها أو التدخل فى شؤونها الداخلية، واحترام العهود والمواثيق، ودعم دور المنظمات الإقليمية والدولية وتعزيز التضامن بين الدول، مع أهمية التشديد على تماسك المؤسسات الوطنية والمحافظة على قوتها بتطويرها المستمر.
قطعاً أن بلورة مثل هذه الاستراتيجيات، تحتاج إلى قيادة واعية تتميز بمواصفات خاصة ورؤية ثاقبة وقدرة على التخطيط والمتابعة من خلال التواصل والتأثير في الآخرين، هذا فضلاً عن الإمكانيات والمطلوبات المرتبطة بالمهنة كالخبرات التراكمية والتجارب المعرفية والعملية والعلمية والدقة والتنظيم والدافع العاطفي تجاه المؤسسة والوظيفة، مع أهمية الاتصاف بالذكاء العقلي والاجتماعي المسنود بالموهبة والقدرة على التفكير خارج الصندوق، مع ضرورة التمتع بكارزيما السلك الدبلوماسي والنجومية وامتلاك رصيد وافر وذاخر من العلاقات العامة والمتميزة بين الزملاء في مختلف المحطات والبعثات، ووسط المجتمع، وداخل المشهد السياسي في السودان.
قد يرى القاريء صعوبةً بالغة وربما استحالة في إيجاد مثل هذه المواصفات مجتمعة في شخصية واحدة، وأراني متفقاً مع هذه الرؤية، ولكنها وزارة الخارجية الوجه المشرق الذي يشعّ جمالاً ويجذب الآخرين للتأمل في واقع البلاد وأحوالها، مما يستوجب على من يضطلع بمهمة قيادة سفينتها أن يتمتع بميزات تفضيلية نادرة، وإمكانيات إدارية وإبداعية ترتكز على حدود مطلوبات فعالة تلامس شغاف الواقع بعيداً عن تأثيرات ذاتية ونفسية، بحيث تكون المحصلة النهائية، هي استعادة الأثر الفخيم للدبلوماسية السودانية وقدرتها على صنع الأحداث ولفت الانتباه على المستويين الإقليمي والدولي.
السفير الدكتور علي يوسف واحد من أبرز من أنجبتهم وزارة الخارجية في العصر الحديث، والاسم اللامع في سماء الدبلوماسية السودانية، فالرجل يستند على سيرة عطرة ومسيرة مبهرة في عالم الدبلوماسية الجميل والمفعم بالعلاقات والمنفتح على سبل التعاون وتعزيز الصلات والمصالح المشتركة بين الدول والمؤسسات والمنظمات فيمكث في القلوب والأفئدة والوجدان ما ينفع الناس، وأما الزبدُ فيذهب جفاء،، وسيرة السفير الدكتور علي يوسف باقية في أذهان وجدران الدبلوماسية السودانية رغم غيابه بفعل لوائح المهنة التي تدفع إلى التقاعد عند بلوغ سن المعاش، رغم قناعتي أن المبدع لا يُحال إلى المعاش.
تجربة السفير الدكتور علي يوسف في بلاط الدبلوماسية السودانية تميزت بإشراقات مازالت تضيء الدرب للعابرين، فقد كان في يوسف وأخوته من الدبلوماسيين في سفارة السودان ببروكسل آيات للسائلين، إذ نجحوا في فتح كوةً في جدار علاقات السودان بالاتحاد الأروبي في وقت كان فيه السودان موصوماً برعاية الإرهاب ومعزولاً من قبل المجتمع الدولي.
وأما في الصين فقد برهن السفير الدكتور علي يوسف أهمية أن يكون الدبلوماسي مبدعاً وخلّاقاً، فصنع الرجل الحدث الاقتصادي المهم في تأريخ السودان، عندما أقنع الصينيين ليكونوا بديلاً عن شركة شيفرون الأمريكية في عمليات التنقيب عن النفط في السودان، ضارباً بعرض الحائط كل المخاوف المترتبة عن المواجهة المحتملة مع صلف وتحدي الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت تلك الخطوة بمثابة نقلة نوعية في تأريخ العلاقات السودانية الصينية على مستوى التعاون الاقتصادي في مجال الاستثمار في قطاع النفط والغاز، بل فتحت الفكرة أفاقاً للتعاون بين الخرطوم وبكين، وشجّعت الصين للدخول إلى القارة الأفريقية عبر بوابة السودان، وحفّزت السفير علي يوسف ليكون رئيساً لجمعية الصداقة السودانية الصينية، وعضواً فاعلاً في المنتدى العربي الصيني.
إلى جنوب أفريقيا، كانت وجهة السفير الدكتور علي يوسف في محطة تحيط بها المخاوف وتحدق بها المخاطر من كل جانب، على خلفية الظلامات السياسية والاجتماعية التي كانت تعيش فيها جنوب أفريقيا، والتي تشابه إلى حدٍّ ما الواقع في السودان، فبسط السفير علي يوسف خبرته الثرة وساهم بقدر متعاظم في دعم مشروع المصالحة الوطنية وتجاوز المرارات بين الأفارقة والأوربيين، وبناء نظام سياسي ناضج ونموذج اجتماعي قائم على التسامح والتعايش واحترام الآخر، لتنهض جنوب أفريقيا سريعاً مودعةً حقباً عجافاً لا تعي لا تنطقُ.
هي إذن محطات احترافية مهمة في مشوار السفير الدكتور علي يوسف، الذي ترعرع في بلاط الخارجية السودانية لآكثر من خمسين عاماً، مذ كان سكرتيراً ثالثاً حتى وصل إلى درجة وكيل وزارة الخارجية، ومابين وظيفة السكرتير الثالث ودرجة الوكيل، تظهر في فضاءات الرجل ومهامه الوظيفية نجمات لامعات مضيئات، كإدارة المراسم والعلاقات العامة التي يعتبر فيها السفير علي يوسف مدرسة متفردة أضافت لوزارة الخارجية في عهده نكهة في إجراءات البروتكول وسمة الضيافة المستمِدة أصولها من إرث سوداني ضارب في جذور العراقة القدم، مسنودة بحنكة ولغة أجنبية رفيعة سهّلت من تواصله، فخلق علاقات، واحتفظ بصلات مع الشعوب والأمم، في شتى قارات العالم، وللرجل خبرات إدارية ومعرفة بالنظم واللوائح والإجرائيات، هذا فضلاً عن تمتعه بحكمة الكبار القادرة على التعاطي مع العاتي من أمواج الظروف والأوضاع الاستثنائية الضاغطة التي تتطلبها المرحلة.
وعلى مستوى المجتمع السوداني، يتميز السفير علي يوسف بعلاقات واسعة في المجال الرياضي باعتباره ممارساً لكرة السلة ومنشط التنس، وحاضراً في المحافل الثقافية والفنية، متوكئاً على عصا انتمائه النبيل للوطن الجميل، بلا لون سياسي أو نعرة قبلية، وإنما ببسمةٍ برّاقة لا تغادر ثغره، وقدرةٍ فائقة على جمع الناس حوله باختلاف سماتهم وألوان طيفهم،، فهلا استجابت قيادة الدولة لأشواق وزارة الخارجية ومنسوبيها ممن يعرفون دنياوات الدبلوماسية وتحدياتها لجهة اللغة والحنك والرؤية، ودفعت بهذا السفير الألمعي بتجاربه الثرية وعلاقاته الممتدة ونبله الكبير وعشقه لهذا التراب ومواقفه المشرِّفة إزاء ما أصاب بلادنا من ابتلاءات، ليقود دفة وزارة الخارجية ويعيدها سيرتها الأولى؟.