منوعات وفنون
“ماما، رجاءا لاتنسي تعبئة فورم تسجيل التبرع بالأعضاء”
سحر عبدالرحيم:
قالها يزن ابني قبل عامين تقريبًا عندما وصلت الفورمات مع البريد للتذكير بأننا لم نخبر الأجهزة الرسمية في شؤون المواطنين باختياراتنا ساعة الموت، هل نرغب بالتبرع أم لا.. وبأي الاعضاء نتبرع إن كُنَّا فاعلين.
أخبرني هو باختياراته وابتسم لي واختفى صاعدًا الدرج..
نظرت خلفه وأنا أفكر، ابني في بداية حياته، مُقتبل العمر. الوقت الذي تنشغل فيه عقول الشباب بالتخطيط للمستقبل والإقبال على الحياة والمتعة بيها.. قلقت بعض الشيء واسرعت الخُطى راكضة خلفه.. توقف لسماع خطواتي ونزل بضع درجات ليتلقى اندفاعي نحوه بأحضانه وهو مبتسم وقال لي :
“عارفك تفكيرك مشى وين.. ما تقلقي دي حاجة عادية يا ماما ومع القانون الجديد لازم كلنا نعملها، نوضح اختياراتنا”
سيرة الموت هذه تثير في الانسان احاسيس متداخلة، بين حب الحياة والتمسك بها وبين الموت بغموضه رغم كونه الحقيقة الوحيدة المؤكدة وما يحمله ما بعده..
نهار الخميس كان لديناChristmas Brunch في مقر عملي هذه الفترة، مجموعة من الزملاء في حلل بهية تحمل طابع المناسبة، احاديث لطيفة وأمنيات طيبة للعام الجديد تبادلناها جميعنا..
تنبهت لدموع في عيون احدي الزميلات وأنا ألقي بالتهنئة.
“ما الأمر؟ هل أنتِ بخير؟” سألتها.
قصة طويلة ومؤثرة جاتني في الرد على سؤالي..
“عاد زوجي من العمل في المستشفى بعد عطلة نهاية الأسبوع قبل فترة، كانت لديه مناوبة ليلية مزدحمة وطويلة. كما هو الحال دائمًا، عندما يعود منها أحرص على الاطمئنان عليه لكني أتركه في هدوء متجهة لعملي ويخلد هو للنوم. لكنه بدأ مضطربًا هذه المرة وطلب مني البقاء معه قليلًا فهو لا يجرؤ على النوم مباشرة رغم إرهاقه الشديد بل هو بحاجةٍ للحديث.
أخبرني أنه كانت لديهم حالة ولادة متعسرة الليلة وكان عليهم الاختيار بين الأم والجنين إذ أنه ما كان ممكنا إنقاذهما معًا، فوُلد الطفل متوفى. وأنه بعد الاطمئنان على الوالدة ذهب بنفسه مع الممرضة لنقله إلى المشرحة. وأنهم اضطرّوا للانتظار في المشرحة، حيث كان الأطباء يعملون على نقل أعضاء فتاة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا. توفيت في حادث سيارة واتخذت أسرتها قرارًا بالتبرع بأعضائها. أخبرني أنه حزين بعض الشيء. كم كان هؤلاء الوالدين في صدمة وحزن لفقدان ابنتهم ولكنهما أيضًا كانا في غاية اللطف والرضا بهذا الاختيار، أن ابنتهم ستعيش في أجساد أشخاص آخرين.
أصيب عقلي بالهلع بعض الشيء عندما أخبرني زوجي بهذا الأمر. ابني الأكبر يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا أيضا، حاولت استحضار الشعور بما سيحدث لي إذا حدث شيء كهذا لي كأم. لكني سرعان ما أزحت أفكار الحزن الذي لا نهاية له جانبًا ونظرت إلى ابني الذي يجلس على الأريكة يحمل الآيباد على حجره وسماعات الأير بود على أذنيه بينما يغطي رأسه بالهودي الذي يرتديه. هو مصابٌ بنزلة برد هذا الأسبوع ويدرس من البيت اونلاين. طردت تلك الخاطرة من رأسي، لن أضطر إلى التفكير في فقدان أحد أطفالي وكذلك الاضطرار إلى اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان من الممكن نقل الأعضاء إلى شخص آخر.
خلد زوجي إلى النوم وسرعان ما بدأت ترتيب اليوم وتلاشت الأفكار المتعلقة بالفتاة المتوفية ذات الأربعة عشر عامًا والموقف النبيل لأهلها. حضرت للعمل وانشغلت في روتينه اليومي ونسيت كل شيء…. إلا أن أتاني اتصال من والدتي في فترة ما بعد الظهر. بدأت بالسؤال عن صحة ابني، أخبرتها أنه في تحسن واعتذرت باني منشغلة في العمل وأني سأحدثها لاحقًا في طريق عودتي للمنزل. أردت إنهاء المكالمة لكني سمعتها تقول لي أن علي الاتصال بصديقي/حبيبي السابق لتعزيته، حبيبي السابق لديه طفلان. توفيت الفتاة البالغة من العمر أربعة عشر عامًا في تلك الليلة وأنه وزوجته تبرعوا بأعضائها.
أصابني الذهول. الفتاة التي كان على زوجي أن ينتظر مع والديها في المشرحة كانت ابنة الرجل الذي كنت انوي الزواج منه.. شعرت بأني كمن انفجرت في وجهه القنبلة الذرية، لم يكن لدي الكثير من التواصل معه وأسرته، ولكن العلاقة كانت جيدة دائمًا رغم افتراقنا، فهو يسكن قريبا من منزل والدتي.
ترددت قليلا في الاتصال به بعد المكالمة مع والدتي. لكني وبعد تفكير طويل في الكلمات أرسلت له رسالة نصية، لم استطع بسهولة اختيار الكلمات التي تصلح في هكذا وقت. ولكنني اقتنعت في النهاية أنه لا يوجد نص خاطئ طالما أنه جاء من قلبك. ولم أكن كاذبة حين أقنعت نفسي بهذا الأمر. كتبت له أنني في الواقع لا أملك كلمات للتعبير عن هذه الخسارة الفادحة، ووصفت اختيارهم للتبرع بالرئتين والقلب والكليتين والكبد بأنه خيار صعب جدًا بل الأقسى من نوعه ولا ينبغي لأحد أن يتخذه بسهولة.
اتصلت عليه بعدها بيوم وتحدثنا مطولا ثم أصبح الاتصال متكررًا جدًا وجيدًا أيضًا معه وزوجته. أجرينا محادثات رائعة حول ابنتهما المتوفية والابن الأكبر وأبنائي. بعد انتهاء مراسم الدفن بدأوا في الانتظار لمعرفة ما إذا كانت عمليات الزرع ناجحة. قبل بضعة أسابيع تلقوا عدد من المكالمات السعيدة. لقد غيرت أعضاء ابنتهم حياة عدد من الأشخاص. وكأنما الحياة تُعاد إليها من جديد عبر هؤلاء الناجون من الموت بفضل أعضائها التي منحتهم حياة أفضل.
سوف تعيش (آنا) هذا هو اسمها، سوف تعيش.. وعلى الرغم من الحزن الشديد بفقدها إلا أنه منح والديها أيضًا شعورًا بالسلام والفخر.
أنا أؤيد بشدة رغبة الوالدين في جعل تسجيل المتبرعين موضوعًا للنقاش بين أبنائهم أيضًا. وما إذا كان سيتم اتخاذ هذا الاختيار في نهاية المطاف هو بالطبع أمر متروك للاختيار الشخصي، ولكن على الأقل فقد تم نقاشه.
هذه الحياة مليئة بالمفاجآت والصورة فيها ليست واضحة دائمًا . لكننا يمكن ان نكون ذووي فائدة فيها حتى بعد موتنا.”
انتهى حديث زميلتي التي أخبرتني أن سبب الدموع في تلك اللحظة كان احساسا عارما بالعرفان تجاه والدي (آنا) اعتراها وهي تنظر للزملاء وحالة الصخب الحلو مع أجواء احتفالات الأعياد المجيدة.. فليس هناك ماهو أجمل من الحياة المفعمة بالمحبة يمكنك تقديمه لمن حولك.
لم أملك إلا أن أوافقها الرأي وأبدي إعجابي الكبير بشجاعة والدي (آنا) وهما يقدمان الهدية الأغلى في الكون لمن هم في حاجة اليها.
وهل هناك ما هو أقيم من الحياة!
حقًا .. الحياة اختيار والسعادة قرار!
وإن شاءالله عمركم طويل .. وسعيد
خمسينية
#Sahartuti