مقالات

التسوية وقرائن ملامح إعادة إنتاج الأزمة

برير إسماعيل:

حول التسوية السياسية السودانية الجارية الآن و قرائن ملامح إعادة إنتاج الأزمة السودانية التاريخية عبرها ما لم يعد تحالف قِوى الحرية و التغيير المجلس المركزي النظر فيها قبل فوات الأوان مستفيداً من التجارب المريرة و المخيبة للآمال و الطموحات للتسوية السياسية التي جاءت بها الوثيقة الدستورية التي مكَّنت بدورها اللجنة الأمنية لنظام الجبهة الإسلامية القومية من إحكام قبضتها على مقاليد السلطة في السودان.

في البدء من حيث المبدأ لابد من التأكيد على أن التسوية السياسية جزءا أصيلا ومهما جداً في مشوار النضالين السياسي المدني السِّلمي و السياسي/ المسلح.

التسوية السودانية المستقبلية لا مفر منها ولكنها ستكون محتاجة لتوافق ثوري وسياسي و كما أنها في حاجة ماسة لوحدة الحركة الجماهيرية للإلتفاف حولها لتحقيق الأهداف الإستراتيجية العليا التي ثار وضحى من أجلها الديمسبريون والديسمبريات عبر تراكم نضالي سِّلمي ومسلح ظلَّ ممتداً لعشرات السنين.

ليس هنا أدنى شكك حول الأهداف النبيلة للذين إختاروا التسوية السياسية الجارية الآن و لكن ستثبت التجربة العملية لهؤلاء الذين يريدون تجريب المجرِّب بأن التسوية السياسية السابقة قد ساهمت في مد عُمر نظام اللجنة الأمنية المسنود بأجهزته القمعية و بمليشياته العسكرية و في ذات السياق أثبتت التجربة العملية أيضاً أن الأهداف الإستراتيجية الكبرى للجنة الأمنية الممسكة بمقاليد السلطة هي تقسيم وحدة الحركة الجماهيرية و وحدة قواها السياسية والمدنيَّة المناضلة من أجل إقامة دولة المواطنة و هذا يعني ببساطة شديدة أن هدف اللجنة الأمنية الرئيس من التسوية السياسية الخالية من التوافق الثوري والسياسي و من السند الجماهيري الكبير هو تقسيم المقسم ثورياً و سياسياً و مدنيَّاً للإستمرار في السلطة.

تاريخياً في الحالة السودانية إرتبطت التسويات السياسية بالإستهبال والإحتيال السياسين اللذين يُقدم عليهما دائماً الطرف الذي يكون ممسكاً بمقاليد السلطة في البلد لوحده قبل جنوحه للتسوية السياسية بصورة تكتيكية هدفها الأساسي ترتيب أوراقه التآمرية ضد المواطنين/ات المناوئين/ات لسياساته القمعية و الإجرامية.

بكل تأكيد نقول إنَّ السبب المركزي لجنوح السلطة الإنقلابية الحالية في السودان للتسوية السياسية تكتيكياً مرتبط بالأوضاع السياسية و الديبلوماسية الإقليمية والدولية و بالضغط الذي تمارسه الحركة الجماهيرية الثائرة ضد ذات السلطة الإنقلابية.

يمكن للناس أن تتناول نماذجاً عديدةً للإحتيال و الإلتفاف السياسين اللذين أقدمت عليهما سلطة الأمر الواقع في السودان من خلال ذكرها لعدد من التسويات السياسية السودانية التي كانت غالبية مآلاتها النهائية صفرية بل سيلاحظ الثوار والثائرات بأن هذه التسويات التاريخية قد ساهمت بدرجة الإمتياز في إعادة إنتاج الأزمة في البلد من جديد و لنذكر على سبيل المثال لا الحصر التسوية السياسية التي كانت بإسم إتفاقية أديس أبابا في عام 1972م و التسوية السياسية التي كانت بإسم المصالحة الوطنية في عام 1977م والتسوية السياسية التي كانت بإسم إتفاقية الخرطوم للسلام في عام 1997م و كُبرى التسويات السياسية السودانية التي كانت بإسم إتفاقية السلام الشامل COMPERHENSIVE PEACE AGREEMENT في عام 2005م و أخيراً التسوية السياسية التي كانت بإسم الوثيقة الدستورية في عام 2019م.

التاريخ المعاصر أوضح إحتيال وإلتفاف السلطة المركزية السودانية على أهداف الحركة الجماهيرية السودانية الثائرة وأبان ذات التاريخ العمل الذي قام به المحتالون الإنقلابيون لقطع الطريق على عملية التغيير التي تتناسب و حجم التضحيات العظيمة التي قدمتها الحركة الجماهيرية الأمر الذي جعل قِوى الثورة العريضة تتشكك في كل خطوة تُقدم عليها القيادة السياسية في إتجاه التسوية التي تجنح إليها سلطة الأمر الواقع المحتالة سياسياً و صاحبة السجل الإجرامي كما هو حادث الآن في السودان*.

الكثير من التسويات السياسية السودانية الموغلة في خداع و إستهبال سلطة الأمر الواقع التي تمَّ ذكرها هنا ربما لم يتذكرها الجيل الديسمبري الحالي و لكن هذا الجيل الثائر لن يغفر و لن ينسى عملية الإحتيال السياسي العظمى التي حدثت له جراء التسوية السياسية التي جاءت بها الوثيقة الدستورية و من هنا جاء تشكيك الحركة الجماهيرية الثائرة مجدداً في التسوية السياسية التي ستُقدم عليها ذات القيادة السياسية التي جاءت بتسوية الوثيقة الدستورية التي كانت مآلاتها النهائية كارثية لجملة من الأسباب التي يصعب ذكرها في هذا المقال.

إنَّ الرفض المُسبب للتسوية السياسية الجارية الآن في السودان حق مشروع لكل مواطن و مواطنة و ليس بمنحة من أحد وهناك عشرات الأسباب الموضوعية لرفضها ولكن ليس من بين هذه الأسباب توجيه الإتهامات والشتائم السياسية للآخرين الذين اختاروا التسوية السياسية مجدداً و بناءً على تقديراتهم السياسية التي لا يتفق معهم فيها الرافضون و الرافضات لذات التسوية التي بشَّر بها تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي في مؤتمره الأخير.

لم يطلب الذين اختاروا التسوية السياسية الحالية من قِوى الثورة العريضة الرافضة لها أن توقف كل شيء لتنتظر مآلاتها النهائية بل ليس من مصلحة دعاة هذه التسوية الجارية الآن في شيء وفي ظل غياب السند الجماهيري الكبير والتوافق الثوري والسياسي على مستوى كل السودان الإقدام على أي خطوة سياسية مفادها أن توقف الحركة الجماهيرية نضالاتها في إنتظار ما تُسفر عنه مآلات التسوية.

الجدير بالذكر أن التسوية السياسية الحالية ليست بالشر المطلق لأنها ستوفر للحركة الجماهيرية الثائرة صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في الصراع السياسي والثقافي والإقتصادي والإثني و الديني …إلخ في السودان فرصة كبيرة لترتيب أوراقها الثورية والسياسية من جديد وسيكون المد الجماهيري الثوري كفيلاً بالقضاء على أية تسوية سياسية لا تستطيع أن تكون في مستوى تطلعات وآمال الحركة الجماهيرية وستعمل الجماهير الثائرة على عدم تكرار النتائج الصفرية للتسويات السياسية السابقة و التي كانت آخرها تسوية الوثيقة الدستورية.
التسوية السياسية الجارية الآن إستخدمت فيها القيادة السياسية المعنية بها ذات المقدمات و الأدوات التي تسببت في حدوث المآلات الكارثية للتسويات السياسية التي سبقتها و من بين هذه المقدمات: قالوا لنا وقلنا لهم واتفقنا على كذا واختلفنا حول كذا في ظل غياب الطرف الرئيس الممسك بمفاتيح كل شيء.

كان لِزاماً على تحالف قِوى الحرية والتغيير المجلس المركزي إبتكار وسائل جديدة أكثر شفافية ووضوحاً تشارك عبرها جميع مكوِّنات قِوى الثورة العريضة قبل الدخول في تسوية جديدة مع ذات اللجنة الأمنية الإنقلابية الحاكمة الآن.

وفقاً للمقدمات السياسية الحالية التي أقدمت عليها قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي لن تكون التسوية السياسية الجارية الآن في مستوى طموحات وتطلعات وآمال الحركة الجماهيرية الثائرة وهناك قرائن كثيرة تؤكد بأن مآلات التسوية الحالية النهائية ستكون في صالح المنظومة الإنقلابية.

الحديث عن تحقيق العدالتين الإنتقالية والجنائية عبر التسوية السياسية الجارية الآن حديث غير مفصَّل وكل المؤشرات تؤكد بأنه لن تتم محاكمة كبار القيادات العسكرية و الأمنية و الشُرطية التي إرتكبت عدداً كبيراً من الجرائم الجنائية والسياسية والإقتصادية في حق البلد و في حق مواطنيها و مواطناتها ما دام ذات القيادات العسكرية و الأمنية و الشُرطية ستكون هي الخصم و الحكم في نفس الوقت.

لن تستطيع التسوية السياسية الجارية الآن حل مليشيا الدعم السريع وكما أنها لن تستطيع إعادة ترتيب أوراق الجيش السوداني العقائدي والمؤدلج لصالح الجيش السوداني المستقبلي المحترف والذي يجب أن تكون له مهام قتالية محددة بناءً على القرار السياسي والسيادي في البلد حتى يكون هذا الجيش محترفاً و على مسافة واحدة من كل المواطنين و المواطنات في أجزاء السودان.

التسوية السياسية الجارية الآن وفقاً للمعطيات السياسية على الأرض والتي يملكها دعاة التسوية الجارية الآن لن تستطيع تسليم المطلوبين دولياً للاهاي لإسترداد حقوق ضحايا حروب الإبادات الجماعية وللوقوف مع أهاليهم ومع ضحايا جريمة فض الإعتصام ومع الضحايا في كل من الجنينة و فتابرنو ونيرتتي وكسلا وبورتسودان ومدني والمقينص …إلخ وأخيراً تسليمهم للمساهمة في تحقيق العدالة الدولية.

التسوية السياسية الجارية الآن لن تساهم في إعادة ترتيب أوراق المؤسسات العسكرية و الأمنية والشُرطية لأن قيادات اللجنة الأمنية وقيادات مليشياتها المقاتلة لشعبها والمرتزقة خارجياً في اليمن على وجه التحديد برفقة الجيش ستظل مسيطرة على صناعة القرارات و على كل تفاصيل هذه الأجهزة العسكرية و الأمنية التي ستوظفها ذات اللجنة الأمنية لقمع المتظاهرين/ات ضد سلطة الأمر الواقع بصورة راتبة تحت سمع وبصر الذين سيوقعون على التسوية السياسية الحالية و الذين سيكونون في السلطة بطريقة صُورية مهما حسنت نواياهم و أخلصوا لقضاياهم و ستكون الأوضاع العامة في البلد كما كانت إبان فترة السلطة السياسية القائمة وفقاً للوثيقة الدستورية.

التسوية السياسية الحالية، لن تستطيع إعادة القوات العسكرية السودانية المرتزقة في اليمن للسودان لأنَّ دول محور الشر العربي المتمثلة في السعودية و مصر والإمارات وقطر لن تكون جادة في دعم عملية التغيير الحقيقي في السودان.

التسوية السياسية الجارية الآن، لن يستطيع بموجبها الذين سيوقعون عليها وبسبب غياب الإجماع/التوافق الثوري والسياسي والسند الجماهيري الكبير، إعادة الأموال التي تسيطر عليها المؤسسات العسكرية والأمنية و الشُرطية التي أدلجتها الجبهة الإسلامية القومية إبان سنوات حكمها التي بدأت منذ إنقلابها في 30 يونيو 1989م والمستمرة حتى الآن، إعادتها للحزينة العامة لتشرف عليها السلطة المدنيَّة الحقيقية في الدولة وفقاً لأولوياتها.

الخلاصات تقول فرض عين على كل مكوِّنات قِوى الثورة العريضة عدم رفض و شيطنة التسوية السياسية من حيث المبدأ لأنها الحل الوحيد للوصول لحلول سياسية دائمة في السودان إن كُنَّا نخوض نضالاً مدنيَّاً سِلِّمياً أو نضالاً سياسياً/مسلحاً ضد السلطة المركزية. والتاريخ النضالي السوداني المعاصر يقول لم يكن هناك رابح في الحرب و لم تستطع أية جهة سودانية مناضلة نضالاً مسلحاً حتى الآن تحقيق كل أهدافها عبر النضال المسلح بعد أن أضطرت بعض القوى السياسية/ المسلحة للجوء إلى النضال المسلح دفاعاً عن حقها في الوجود.

الخلاصات تقول فرض عين على كل القِوى السياسية والمدنيَّة المحسوبة على الثورة وقف التراشق و الإتهامات والملاسنات السياسية فيما بينها لكي تظل أبواب الحوار بينها مفتوحة إلى الأبد لأن السلطة الإنقلابية الحالية سوف تواصل في عملية الإستثمار السياسي الرخيص في هذه الخلافات السياسية العبثية الدائرية. وفي نفس الوقت لابد للجميع من أن يضعوا حدوداً فاصلة ما بين التقديرات السياسية الخاطئة لبعض القِوى المحسوبة على الثورة و بين خيانة البعض للأهداف النبيلة للثورة.

الخلاصات تقول ليس من الحكمة السياسية في شيء أن يتحدث الذين أعلنوا عن الخطوة الأولى نحو تحقيق التسوية السياسية أن يتحدثوا بشيء من الأستاذية والمرجعية العليا للإتفاقيات السودانية لأنهم قدموا أنفسهم كساسة يملكون الأقلام الحمراء لتصحيح إتفاقيات سلام جوبا وكان الأفضل لهم كساسة محترفين أن يتحدثوا عن نواقص الوثيقة الدستورية الكارثية التي أتوا بها وعن غياب آليات تنفيذها رغم عللها الكثيرة وعن غياب الجداول والسقوفات الزمنية لهيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية والشُرطية وعن شرعنة مليشيا الدعم السريع في ذات الوثيقة وعن غياب العدالة طيلة الفترة التي حكمت فيها قوى الحرية والتغيير السودان وعن عدم تسليم المطلوبين دولياً وعن إمتلاك المؤسسات العسكرية لنسبة 82% من اقتصاديات البلد و عن عدم تكوين المجلس التشريعي …إلخ وإن كان لابد من حديث عن إتفاقيات سلام جوبا فالأفضل أن يتحدثوا عن تطبيق الإتفاقيات على الأرض و في أثناء هذا التطبيق الذي يجب أن تقوم به سلطة مدنيَّة حقيقية وليست صُورية ستتم دون أدنى شكك معالجة أوجه القصور العديدة في الوثيقة الدستورية و في كل الإتفاقيات معاً لأن إتفاقيات سلام جوبا وجدت المشهد السياسي بسبب الوثيقة الدستورية المُعيبة عايراً و أعطته سوطاً بمعنى آخر أن الأصل الذي ساهم في عرقلة مسيرة الثورة كانت الوثيقة الدستورية.

إنَّ الحديث السياسي عن إتفاقيات سلام جوبا و بعيداً عن القيام بدور الأستاذية السياسية و المرجعية التاريخية المصححة للإتفاقيات السودانية سيساهم بالضرورة في توسعة دائرة الإلتفاف حول التسوية السياسية المستقبلية القادمة وفقاً لمقدمات و عِدة شغل سياسية جديدة ولكن يبدو أن المتحدثين في مؤتمر تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي الأساتذة الأجلاء ياسر عرمان والواثق البرير وطه عثمان وجعفر حسن لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا من تجاربهم السياسية بعد إستلامهم للسلطة الصُّورية بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية حينها إستثمرت اللجنة الأمنية الحاكمة الآن واستثمر حلفاؤها في الداخل والخارج معاً في الخلافات العبثية ما بين الجبهة الثورية وغالبية مكوِّنات تحالف قوى الحرية والتغيير عندما كان هذا التحالف مُوحَّداً وكانت النتيجة النهائية لهذه الصراعات السياسية الدائرية الخسران المبين لكل الأطراف المتصارعة و المحسوبة على الثورة.

الخلاصات تقول إنَّ التسوية السياسية السودانية المستقبلية قادمة و لكنها لن تكون كسابقاتها وسيكون عليها في الغالب الأعم إجماع ثوري و سياسي والتفاف جماهيري عريض وبالحد الأدني سيكون عليها توافق ثوري وسياسي والتفاف جماهيري عظيم ليقوم بدور الرقيب الحقيقي على كل خطوة تُقدم عليها الحكومة المدنيَّة القادمة.

الخلاصات تقول لن تعود الأوضاع السياسية السودان للوراء بفضل نضالات شعوبه الثائرة وإن طالت رحلة السفر في إتجاه تحقيق دولة المواطنة ولن تقبل الحركة الجماهيرية السودانية العظيمة بتسوية سياسية تكون لمليشيا الدعم السريع ولمليشيا الجيش الحالية وللأجهزة الأمنية والشُرطية التي عملت الجبهة الإسلامية القومية على أدلجتها الكلمة الأولى و الأخيرة.

الخلاصات تقول إنَّ النصر أكيد و أنَّ الثورة السودانية ستظل مستمرة إلى أن تحقق كل الأهداف النبيلة التي ضحى من أجلها الشهداء و الشهيدات و الثوار و الثائرات وعليه لن تستطيع أية تسوية سياسية في السودان لا تستطيع أن تُلبي طموحات وتطلعات وآمال جماهيرها المليونية أن توقف قطارها.

كارديف- 18 نوڤمبر 2022م

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق