مقالات
الكتياب تبكي بحرا من بحار علومها
د.معاوية عبيد:
الحمد لله الذي تفرد بالبقاء وكتب على عباده الفناء، جعل الدنيا دار امتحان وابتلاء، والآخرة دار نعيم أو شقاء بلا أمد ولا انتهاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله القائل : (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ) .
يقول تعالي في محكم تنزيله في سورة الأعراف : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) .
جاء في قول بعض المفسرين في تأويل هذه الآية ، قال أبو جعفر : والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته إذا أنـزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته، وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا .
وقال آخر : حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: ” والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا ” ، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثلَ الكافر كالبلدة السَّبِخة المالحة التي يخرج منها النـز ، فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث ، ﻭﻓﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ -ﷺ- شبه قلب المؤمن ﺑﺎﻷﺭﺽ الطيبة، ﻭﺑﺎﻟﺘﺮﺑﺔ الطيبة، ﻭاﻟﻘﻠﺐ اﻟﺨﺒﻴﺚ ﻳﺸﺒﻪ ﺑﺎﻷﺭﺽ اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ ﻭﺑﺎﻟﺘﺮﺑﺔ اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ، ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ اﻟﻘﻠﺐ ﻭاﻟﺘﺮﺑﺔ ﻣﻨﺒﺖ ﺯﺭﻉ، ﻭﻣﺄﺗﻰ ﺛﻤﺮ، اﻟﻘﻠﺐ ﻳﻨﺒﺖ ﻧﻮاﻳﺎ ﻭﻣﺸﺎﻋﺮ ﻭاﻧﻔﻌﺎﻻﺕ ﻭاﺳﺘﺠﺎﺑﺎﺕ ﻭاﺗﺠﺎﻫﺎﺕ ﻭﻋﺰاﺋﻢ ﻭﺃﻋﻤﺎﻻً ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻭﺁﺛﺎﺭاً ﻓﻲ ﻭاﻗﻊ اﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭاﻷﺭﺽ ﺗﻨﺒﺖ ﺯﺭﻋﺎً ﻭﺛﻤﺮاً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎً ﺃﻛﻠﻪ ﻭﺃﻟﻮاﻧﻪ ﻭﻣﺬاﻗﺎﺗﻪ ﻭﺃﻧﻮاﻋﻪ
، تلك هي قرية الكتياب الراقدة علي ضفاف النيل من الناحية الغربية ظلت تربتها صالحة لكل زمان ومكان في انبات العلماء و الصالحين منذ نشأتها علي يد مؤسسها جدنا احمد ابو خمسين ( كتي) وتقول الروايات لقب بهذا الاسم لأنه كان يعلق المصحف علي عنقه، واخري تقول : انه حفظ القرآن وعلومه منذ صغرها ووضعهم علي عاتقه ، كل الروايات تثبتها الحقيقة فقد وضع هذا الرجل القرآن و علومه علي عاتقه لكي يزرع لنا هذا الغرس الطيب في تربة طيبة فكانت قرية الكتياب التي اسس فيها اول خلاويه و ما زالت تقابة قرآنها و علومها متقدة تخرج أجيالاُ و راء أجيال منذ قرون خلت ، قرية الكتياب اليوم تودع الي دار الخلود بحر من بحار علومها و علمائها، وواحد من مؤسسي هذه الخلاوي هو شيخنا ( الفكي مصطفى إبن الفكي علي ولد الشيخ الجليل العالم الزاهد في بيت علم وقرآن درس القرآن الكريم بخلوة الفكي عبدالله علي يد الشيخ محمد احمد الفكي عبدالله ثم درس العلوم الشرعية على خاله الشيخ فضيل النزير ثم على الشيخ محمد الشيخ الطيب قمر الدين ثم درس على عدد من المشايخ بأمدرمان ) هذه السلسلة التي ورثت العلم كابر عن كابر نبتت في قرية الصالحين و العلماء التي تأتي أكلها كل حين ، و خلاوي الكتياب ممتدة ولها أفرع في عدد من ولايات البلاد المختلفة وخارج السودان ، علي سبيل المثال لا الحصر تلك هي قرية الصوفي البشير بولاية القضارف وغيرها من المناطق التي امتد لها هذا الغرس الطيب . إن فقدنا لشيخنا و عالمنا الفكي مصطفي لفقد جلل و مصاب عظيم ، كنا عندما نزور اهلنا في الكتياب من اجل المناسبات و صلة الرحم كان لابد لنا أن نقف عند هذا الشيخ الجليل من اجل التزود من بحر علومه والأخذ من بركات الصالحين الانقياء الاتقياء ، تكون لنا زاداً في الطريق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (علماء هذه الأمة رجلان، فرجل أعطاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه صفداً ولم يشتر به ثمناً أولئك يصلي عليهم طير السماء وحيتان البحر ودواب الأرض والكرام الكاتبون ورجل آتاه علماً فضن به عباده وأخذ به صفداً واشترى به ثمناً فذلك يأتي يوم القيامة يلجم بلجام من نار) ، هكذا كان شيخنا الفكي مصطفي عالما ورعاً ، كانت بوابة داره مشرعة صباح ومساء ، يهرع اليها الصغار قبل الكبار ، فهو لا يرد سائلاً، ويظل ليله عابداً ساجداُ ، و هو بحر يرد إليه الناس من كل حدب وصوب ينهلوا من مورده ، و اذا زرت الكتياب و لم تزر فكي مصطفى أو الخلاوي أو أي احد من ركائزها و اعمدتها من اهل العلم فأنت لم تزر الكتياب ، هكذا دأب أهلنا في قرية الكتياب خاص اولئك الذين ساقتهم الأرزاق الي خارج الديار تجدهم دوماً بكل أدب و احترام يأتون إليه فرادي وجماعات ، أما أهل المنطقة فقد كان من أوجب واجباتهم أن يصبحوا عليه بكل أدب و احترام وهذا ديدنهم وهم يحيون بذلك سنة النبي صل الله عليه وسلم فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (رواه أحمد ) ، و قال السعدي رحمه الله: “مِن عقيدة أهل السُّنة والجماعة: أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة، أي: يتقربون إلى الله تعالى بتوقير العلماء، وتعظيم حُرمتهم”، وكان الإمام أحمد كثير الدعاء للشافعي رحمهما الله جميعاً، فسأله ابنه عبد الله: يا أبتِ، أي شيء كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فأجاب رحمه الله: “يا بنيّ، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو منهما عوض”. ، هكذا كان شيخنا الفكي مصطفي وشمس و عافية لأهلنا في الكتياب ، وبفقده فقدت الكتياب و القري التي حولها وعموم الأهل داخل البلاد وخارجها بموته فقدوا بحراً من بحور العلم وشمس فقه سطعت في سماها الانجم ، و ذكر ابن القيم الجوزية رحمه الله عن فضل العلماء حيث قال : ” العلماء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الآباء والأمهات بنص الكتاب”.
فحُق أن يوصفوا بأفضل الأوصاف وأعلاها، وأعظمها وأزكاها؛ كيف لا وهم الذين أخبر عنهم صل الله عليه وسلم أنهم: “ورثة الأنبياء” وكفى بها منقبة، بل حسبهم مديح الله لهم في كتابهالعزيز في الآية ( ١١) من سورة المجادلة : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) .
وقد اجمعت الامه علي علمه وورعه و هي تودع اليوم و تواري جثمانه الثري في أطيب بقعة و أطيب يوم رحل فيه عالِمنا عن عالَمنا ، وتلك الحشود التي صلت علي جثمانه الطاهر شاهدة عليه وشهادة له يوم لا ينفع مال ولا بنون ،شاهدة علي علمه وورعه الذين خدم بهما الناس في حياته ، وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه “مفتاح دار السعادة” عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض يصلون على معلم الناس الخير): لما كان تعليمه للناس الخير سبباً لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بأن جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكون سبباً لنجاته وسعادته وفلاحه. وأيضاً فإن معلم الناس الخير لما كان مظهراً لدين الرب وأحكامه ومعرفاً لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاة أهل سمواته عليه ما يكون تنويهاً به وتشريفاً له وإظهاراً للثناء عليه بين وصلاة أهل السموات والأرض.
نسأل الله أن يغفر لشيخنا فكي مصطفي و أن يتغمده بواسع رحمته بقدر ماقدم وبذل وجاهد وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا يارب العالمين.
والعزاء موصول لكل أهلنا بمنطقة الكتياب .