مقالات
إستراتيجيات الحكم الرشيد
النذير إبراهيم العاقب:
ظل السودان ومنذ استقلاله منتصف خمسينيات القرن الماضي في حالة من التخبط في الإدارة العامة لشؤون الدولة كما يجب، وذلك بفعل العديد من الأسباب المتمثلة في عدم وجود رؤى الإدارة والحكم الرشيد لدى كل الحكومات التي مرَّت على حكم السودان، مدنية كانت أو عسكرية، والتي بالطبع كانت تنتهج نهج التلقائية والعفوية وإنتهاج المحاصصة وترسيخ قيم الجهوية السياسية والقبلية في إدارة الدولة، الأمر الذي أفضى بالطبع لإنهيار متكامل في شتى نواحي العمل الإداري المركزي، وفي كل الأقاليم كذلك، ومرده لعدم وجود الكفاءات الإدارية والسياسية الفاعلة لوضع الخطط والبرامج التنموية الشاملة، وبالتالي أفضت بالدولة السودانية إلى الانزلاق إلى حضيض التخلف الإداري والتنموي بكل ما تعني هذه المعاني، فضلاً عدم الإستقرار السياسي والأمني طوال الحقب الماضية، والمتمثل في الحروب الأهلية المتكررة بين الفينة والأخرى، وذلك بسبب الظلم البائن للهامش وتركيز السلطة الإدارية بالتحديد في يد فئات جهوية محددة، مع تجاهل الغالبية العظمى الأخرى من الأقاليم الطرفية، الأمر الذي يتطلب الآن، وبشكلٍ عاجل من السلطة الحاكمة الحالية، وإن كانت هي نفسها تخوض الآن حرباً ضروساً هي الأعنف والأكثر ضرراً للبلاد ككل من سابقاتها، ضرورة إنتهاج نهج جديد وحازم وحاسم لإدارة الدولة مستقبلاً حال إنتهاء الحرب الحالية، وذلك بإستقطاب الكفاءات الحقيقية، على أن تكون من فئة التكنوقراط غير المنتمين لأي حزب كان، وذلك لشغل المناصب الوزارية، والإدارية على كافة المستويات، والتي متى ما تم إنفاذها وتحقيقها على الأرض، تكون الدولة السودانية قد خطت خطواتها الأولى في ترسيخ قيم ومبادئ وإستراتيجيات الحكم الرشيد.
والحكم الرشيد يُمثِّل نظام الحكم القائم على خدمة مصالح الأمة، والذي يعتبر السلطة والقيادة وظيفة في الخدمة العامة، ويتخذ منها منصة لإثبات الكفاءة والقدرة على تحقيق متطلبات الشعوب وحاجاتها وسياستها بالعدل والمساواة، وأن يتصف بالقدرة على دمج المجتمع المتعدد في السلطة والحكم والمشاركة، وأن يتمتع بإستمرار بشرعية شعبية أساسها الإنتخاب الشعبي النزيه والعام.
ويتفق الكثير من الباحثين على أن من أهم أسس الحكم الرشيد تتمثل في المشاركة وسيادة القانون والشفافية والمساءلة، وترتبط جميعها بممارسة الشعوب للحريات العامة في مختلف نواحي الحياة.
وثمة أهمية كبيرة لممارسات الحكم الرشيد وتحقيق دوره في تعزيز التنمية البشرية وقدرته على تدعيم الممارسات الديموقراطية وتحسين فعالية المؤسسات وتحقيق سيادة القانون والعدالة، و يستهدف خدمة مصالح الأمة العليا بعيداً عن المصالح الذاتية والجهوية.
ولاشك أن لتطبيق الحكم الرشيد آثار ونتائج إستراتيجية على حياة الشعوب وقوة الدولة وتفاعلها مع الإقليم والعالم ككل، حيث تعتبر الحريات العامة الضامن والأساس الأهم لتحقيق شروطه وإستمراريته.
فضلاً عن أن الحكم الرشيد له قواعد وأركان يقوم عليها لتحقيق غاياته وأهداف وتحقيق تطلعات الشعوب، والمتمثلة في
الحرية، حيث تعتبر الحريات العامة جزءاً من حقوق الإنسان الطبيعية، وشجعتها ونظمتها الكثير من القوانين، وكذلك الشرائع السماوية وعلى رأسها الإسلام، وتمثل إدارة الحريات العامة بشفافية وكفاءة أساساً للتنمية السياسية وحافظاً للدولة والمجتمع من الإنهيار أو الإقتتال الداخلي، وتمثل في نفس الوقت مصدراً أساسياً من مصادر تصحيح المسار وتوجيه الكفاءات ورفع المظالم.
فضلاً عن أن الحرية تمثل روح الإنسان في إعمار الأرض والبناء والعمل والكفاح والدفاع عن المجتمع والتعبير عن ذاته ومشاركته الجريئة في الحياة العامة، وهي قيمة وركن مهم يطال الفرد والأسرة والمجتمع والتنظيمات والنقابات بكل اشكالها، ولذلك فهي تحقق مصلحة جماعية شاملة لكل مكونات المجتمع، ومن أهمها حرية الإعتقاد والرأي واختيار طريقة الحياة والعمل والتخصص العلمي، وكذلك حرية التعبير وحرية التجمع وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات، وحرية الصحافة والإعلام، والحريات الأكاديمية وكل ذلك ما لم تتعدى على حريات الآخرين من جهة ، وما لم تخل بالأمن العام للمجتمع وقيمه الأساسية الأخلاقية التي يتعارف عليها، وربما بدأت جميع دعوات الانبياء والرسل بهذ القيمة عندما دعت الى توحيد المعبود وهو الله ونبذ كل ما عداه، وعندما رفضت مبدأ العبودية بين البشر لبعضهم، وعندما طالبت السلطات الحاكمة في كل زمان بالإمتناع عن إجبار الناس على إتِّباع الرأي أو الفكر أو المعتقد وتركهم يختارون ذلك دونما إكراه من منطلق “لا إكراه في الدين”.
ولاشك أن هناك ثمة علاقة خطيَّة بين الحريات العامة والحكم الرشيد، وخاصة في مجال دعم إدارة الحكم الصالح وبرامجه ذات الصلة بإدارة الحكم والتي تشمل الهيئات التشريعية والقضاء والهيئات الإنتخابية واللامركزية والحكم المحلي وإدارة القطاعين الخاص والعام، والاقتصاد والإدارة المالية ومنظمات المجتمع المدني.
حيثُ تُعَد هذه العلاقة منطلقاً جوهرياً لتحقيق الإستقرار، بل هي الإطار الناظم للديمقراطية والحكم الصالح في المفهوم الحديث، والتي قامت كل الثورات وحركات الإصلاح في الدول المختلفة لتحقيقه واقعاً معاشاً للأمة بعيداً عن الإستبداد والظلم والفساد.
وتأتي أهمية المساواة هنا أولاً، من منطلق إستنادها إلى أن المواطنة هي القاعدة الناظمة لحياة المجتمع على الصعيدين الشعوبي القطري والوحدوي القومي، وهي بذلك تؤسس لبيئة إجتماعية مستقرة، وتؤسس فكراً إجتماعياً وسياسياً مستقراً يُمكِن البناء عليه الكثير من فرص النجاح الإقتصادي والسياسي والثقافي، وتمنع التكلسات الإثنية والطائفية والقبلية، ولا تعطيها فرصة إعاقة حركة المجتمع في مجالات التنمية والحضارة والتقدم، مما يتسبب بالطبع في صقل الطاقات وإستثمار أقصى الإمكانات المتاحة، وتُلغِي بحالة ما يعرف بالتهميش والاقصاء، كما ترفع الكثير من الظلم الفردي والجماعي عن المجتمع والدولة، ونشير هنا إلى أن المساواة بين الكل هي من قواعد الإعتقاد الديني الإسلامي “لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى”، و”الناس سواسية كأسنان المشط”، وبذلك فهي تلغي كل الفوارق المتعلقة باللون والجنس والأصل والعشيرة والنسب والطبقة الإجتماعية والطبقة الإقتصادية وغيرها، بل وتُسَاوِي بين الحاكم والمحكوم في المسئولية والمساءلة.
ومن ثم يأتي العدل والذي يُعتبر أساس الملك والحكم الرشيد، وقديماً قيل أن الحكم العادل عمره الزمان كله، والحكم غير العادل مصيره محفوف بالمخاطر، وتعتبر قاعدة العدل من قواعد الدين والعقيدة الإسلامية وأساس رسالات الأنبياء، وهي كذلك الجزء القَيِّم من التاريخ الثقافي البشري، وتفتخر الأمم بأنها قادرة على تحقيق العدل في الحكم والقضاء، كما في إدارة المال وتوزيع الثروة وتقديم الخدمات الأساسية، كما في التعليم والصحة وفي العلاقات الخارجية وإتخاذ المواقف بين الدول والأمم الأُخرى، وهي بذلك تتعاطى مع العدل بوصفه ركنا أساسياً ودائماً لهذه الدولة ولهذا الحكم حتى يعد حكما رشيداً.
ويستند الحكم الرشيد في تعامله مع هذه القواعد على أساس العلاقة التبادلية بين السلطة والحكم وبين الشعوب، فهو يستند إلى تواصل وإتصال يقوم على المسئولية والمساءلة، حيث تُعَدُّ نظرية المسئولية والمساءلة من روافع حماية الحكم الرشيد لتحقيق مقاصد الحكم في رعاية شئون المواطنين والقيام عليها وتحقيق حاجاتهم وتنميتهم وتقدمهم، وتوفير كافة الفرص لهم جميعاً للقيام بشئون حياتهم بأحسن صورة ممكنة، وبذلك يقف الحاكم في الحكم الرشيد أمام الشعب ليتحمل مسئولية الفشل، كما يقف ليقطف ثمار النجاح، ويمكن لعملية الإختيار الحر للحاكم عبر صناديق الإقتراع وبشفافية مطلقة أن تُحقِّق أساساً شرعياً لتطبيق هذه القاعدة.
ومن ثم تأتي الشفافية، والتي يفترض توفرها في سلوك الحاكم وحيثيات قراراته وإدارته لشئون البلاد، وبالتالي تُحقِّق القدرة على الحكم على قدراته وأهليته وإستمرارها من عدمه، وتساعد على إضعاف فرص انتشار الفساد وتفاقمه، وتوفر البيئة المواتية لمحاسبة الفاسدين، ومنع التغول المحتمل للمقربين من الحاكم على مصالح العباد وحقوقهم، وتُخَفِّف من حِدَّة سطوة السلطة الأمنية للأجهزة التابعة للحاكم على الناس، ما يتيح له فرصة البناء على الحقائق من جهة، ويُوَفِّر للمواطنين القدرة على تسديد مسار الحاكم من جهة أٌخرى.
وهناك كذلك مسألة القدرة على التغيير، والتي تعتبر الأساس المهم لتحقيق العدل والمساواة والحرية، وهو الأساس الذي يجعل الحاكم في حالة بحث مستمر عن تطوير أدائه بما يُرضِي الشعب ويُحقِّق مصالحه، وتجعل الجمهور في مربع القُوَّة في التعامل مع الحاكم حال حياده عن الصواب، أو عجزه عن القيام بالمهام الطبيعية لرعاية شئون الأمة وتحقيق حاجاتها، وهو أيضاً عقد إجتماعي متين بين الطرفين يمنع تَحَقُّق الإستبداد والإستفراد والهيمنة والتمسك بالحكم بالحديد والنار، ولذلك فإن قدرة الشعب على تغيير الحاكم هي رافعة متينة لتحقيق الحكم الرشيد.
ويُعتبر بناء الدولة ومؤسساتها السياسية المختلفة وهيكل صناعة القرار التشريعي والتنفيذي فيها وطريقة إختيار الحاكم ومساعديه، والتي يُعتَبَر الدستور والقانون الناظم الحديث لها، هي الجهة أو المؤشر على توفر مواصفات الحكم الرشيد وضمانات تحققه وإستمراره وعدم إنحرافه أو تراجعه، ولذلك فإن بداية الطريق لتحقيق الحكم الرشيد هي بناء الدستور والقانون الذي يحقق القواعد الثلاثة أعلاه، الحرية والمساواة والعدل، ويوفر لها الروافع التي تجعلها واقعاً في البلاد كما ذكرنا آنفاً (المسئولية والمساءلة والشفافية والقدرة على التغيير)، والتي تبدأ بطرقة إختيار الحاكم وتنتهي بطريقة تغييره.. ألا هل بلَّغت.. اللهم فأشهد.