مقالات

عام على معركة الكرامة

علي عسكوري:

صحت الخرطوم على دوى هائل من الانفجارات وصوت الطلقات وتبادل القصف والمدفعية الثقيلة والراجمات و ازيز الطائرات وانفجارات في كل الجهات وحرائق ودخان كثيف يسد الافق من كل الاتجاهات. فجأة تحولت المدينة الهادئة في شهر رمضان وعطلة السبت الى ساحة حرب في مدنها الثلاثة واختلط حابلها بنابلها . سرعان ما تبع ذلك انقطاع خدمات الماء والكهرباء ووجد مئات الالاف من الناس انفسهم دون سبب في وسط ميدان المعركة و دون ان يعلموا الى اين يتجهوا وكيف يعودوا الى منازلهم، فإطلاق النار والقصف يأتى من جميع الاتجاهات. تقطعت بهم السبل فجأة فلجأوا الى ازقة الاسواق حماية لانفسهم من القصف العشوائي الذى ياتي من مصادر متعددة.

ارتبكت الحياة في المدينة والكل يبحث عن طريق النجاة او محاولة ادارك طبيعة وكنه ما يجري.

لم تتوفر أي تفاصيل عن ما يدور، فقط تقول بعض القنوات الفضائية ان مليشيا الدعم السريع تمردت وانها الان تسيطر على تسعين بالمائة من العاصمة وان الرئيس وقيادة الجيش محاصرين في القيادة العامة التى تحاصرها المليشيا من جميع الجهات.

حيث كنت اسكن بالقرب من ميدان شرونى؛ كان ازير مدافع الدبابات من ناحية حي المطار والقيادة العامة يهز البناية وكانت المقذوفات تمر فوقها محدثة اصواتا مرعبة تصطك معها الشبابيك والابواب. نظرت من الشباك فلاحظت ان سيارتي قد اصيبت باكثر من طلق ناري وان بعض المقذوفات سقطت وتسقط في ميدان (نادي الاسرة) محدثة دوى هائل وغبار كثيف، رغم عدم وجود اى هدف عسكري في المنطقة. كان صوت فرقعة الثنائيات مستمرا لا يهدأ في ناحية سوق الخرطوم (٢). الطرقات خاوية تماما حتى من الكلاب الضالة. لا داخل الى ولا خارج من سوق السجانة رغم حركته ونشاطه المعروف ايام السبت.
هكذا كانت الخرطوم صبيحة ذلك اليوم الكارثي، ساحة معركة و عمليات وحرب وقتال حامى الوطيس في كل الانحاء.

وجوم كامل خيم على السكان وبلغت الصدمة النفسية اعلى درجاتها ولا احد يعلم كنه ما يدور وما يحدث وما هى مآلات القتال.

منذ ان استقر الانسان وتكونت المجتمعات بعد اكتشاف الزراعة في مصر فى عهد النبي ادريس (عليه السلام) اصبح امر السلطة محل صراع بين البشر. ومنذ ذلك الزمان الممعن في القدم ظل البشر يتصارعون حول السلطة ولم ولن ينفكوا حتى قيام الساعة، فالسلطة – للاسف- هى اهم مصادر النفوذ والثروة والمجد و صناعة التغيير وترك البصمات في تاريخ الامم والشعوب. ولذلك ظلت السلطة محل صراع تراق دونها الدماء وتعد الجيوش وتسرج الخيول وتنصب المدافع وتمخر الاساطيل عباب المحيطات وتملاء السماء بالطائرات والصواريخ.
ورغم تبدل حياة البشر وتنوعها وتطورها ظل الصراع على السلطة ثابتا. و نتيجة لذلك تطورت فنون الحروب وتطورت الاسلحة الفتاكة وقدرة الانسان على دمار نوعه. وكما نعلم، فإن لكل من روسيا وامريكا اسلحة نووية كافية لتدمير الكرة الارضية اكثر من عشرة مرات، ذلك ما بلغه امر الانسان في البحث عن توفير القدرات للفتك بنوعه .

رغم ذلك لم يكن هذا التطور الهائل في الاسلحة والاستعداد للحروب بلا فوائد. كدارس لعلوم التنمية الاقتصادية فإنى ازعم ان الحروب هي واحد ان لم تكن هي الاساس في تطور المجتمعات بتحويل الاختراعات العسكرية للاستخدام المدنى. فكثير من الاختراعات التى حدثت في حياة البشر كانت في جوهرها او دافعها الاساسي اما دعم للقوة الهجومية للدولة و المجتمع او تقوية الامكانات الدفاعيه لهما، بدا من تعلم صقل السكاكين والسيوف وانتهاء بالمسيرات.
قليلة جدا هي الاختراعات التى جاءت لاغراض مدنية بحته. فكل ما يخترعه الانسان يتم النظر اليه اولا بمدى الاستفادة منه في الحرب بما في ذلك السكك الحديدية والنقل البحري ووسائل الاتصال قديمها وحديثها.

وبنظرة عابرة لتاريخ البشرية تالده وطريفه يمكن لنا تلخيصه في كلمتين (الحرب والخراب) ! انظر مثلا لتاريخ الدولة الرومانية وحاول ان تحصي عدد الحروب التى خاضتها وما اهلكته من بشر وخلفته من دمار، وكذلك الامبراطورية العثمانية والبريطانية والفرنسية وحاليا الامبراطورية الامريكية ستجد ان الثابت الوحيد بين كل هذه الامبراطوريات هو الحرب والغزو. اما التطور في الحياة المدنية فيعتمد على قدرة الامبراطوريات في حماية مجتمعاتها وتوفير الاستقرار لها لتبدع ولتتمتع بحياة الترف ولو الى حين.

وللمحافظة على حياة الترف والدعة لمجتمعاتها تضطر الدول والامبراطوريات لشن الحروب والحصول على الموارد تحت مبررات شتي. لقد كانت الموارد وما تزال هي السبب الرئيسي لشن الحروب في صراع البشرية الطويل لما يسميه علماء العلوم الاجتماعية بالبقاء ( survial) او البقاء للاصلح survival for the fittest (البقاء للاصلح) ورغم ان اولئك العلماء يزعمون ان ذلك هو منطق الطبيعة الا ان ذلك الزعم يظل محل نظر فيما يتعلق بالجنس البشري. فمثلا ما تزال اقوى الدول تنهزم امام قوى الطبيعة من فيضانات وزلازل واعاصير وحرائق، فقوى الطبيعة لا تفرق بين مجتمع قوى ومجتمع فقير، وهي قادرة على قهر الجميع وهذا صراع قديم لا يزال الانسان يكابده.
كان هذا مدخلا ضروريا لفهم الهدف او الاهداف الجوهرية التى قامت بسببها الحرب الحالية في بلادنا.

إذا، جاءتنا الحرب قبل عام عند ابواب منازلنا وتحولت عاصمة البلاد لمنطقة عمليات حربية كاملة. تبع ذلك ان صب السودانيون جام غضبهم على مليشيا الدعم السريع بوصفها المتسبب في الحرب وبعضهم اتجه للبحث في نظريات المؤامرة و حمل البعض الاخر دولة الامارات كامل المسؤولية عن الحرب وهكذا.. ربما تمثل كل هذه الاتهامات جزء من الحقيقة الماثلة كسبب للحرب، ولكن في واقع الحال لم يكن هؤلاء جميعا الا ادوات رسمت لهم ادوار محددة للقيام بها.

تعود اسباب هذه الحرب في رائي الى تاريخ قديم وتحديدا الى العام ١٨٩٨ وموقعة كرري المعروفة. في ذلك العام دحر الجيش البريطانى نظام دولة المهدية وتمت اعادة استعمار السودان. ثم ما لبث البريطانيون ان نهضوا يبحثون في الاراضي الجديدة عن مواردها للاستفادة منها وذلك بغرض ربط الاقتصاد المحلى بالاقتصاد العالمى. وتم تنفيذ مشروع الجزيرة كأكبر مشروع مروى في العالم استفادوا من انتاجه من القطن في تغذية مصانع النسيج في بلادهم. غير ان البريطانيين اصطدموا باتساع رقعة الارض الجفرافية في السودان او ما اسماه تشرشل في كتابه “حرب النهر” بى wilderness (المجاهيل) وكنتيجة لاتساع الرقعة الجفرافية و بعدها و تعدد الموارد وانشغال البريطانيين بحروب اخري كثيرة في مناطق اخري من العالم لم يتمكنوا من الاستفادة من موارد هذه (المجاهيل) بالصورة المطلوبة. و لذلك اكتفوا بمشروع الجزيرة وطوروا ميناء بورتسودان لاغراض الصادر خدمة لاستراتيجيتهم في ربط موارد هذه (المجاهيل) بالاقتصاد العالمى ولكنهم ظلوا على قناعة ان هنالك عمل لم يكتمل، وان كان بعضنا لا يعلم فعلى كل حال هم وغيرهم من اصحاب السطوة في العالم حاليا يعلمون.
ما كاد مشروع الجزيرة يكتمل حتى واجه البريطانيون الحرب العالمية الثانية التى لخبطت استراتيجيتهم التوسعية وقصمت ظهر اقتصادهم فوجدوا أنفسهم في نهاية المطاف مضطرين لترك مستعمراتهم لحالها، ثم بدأ العد التنازلى لامبراطوريتهم الضخمة فورثتها امريكا بعد نهاية الحرب الكونية الثانية.
إذا لم يفلح البريطانيون في دمج اقتصاد ” المجاهيل” في الاقتصاد العالمي ولم يسعفهم الزمن لاقامة استثمارات اخري معتبرة غير مشروع الجزيرة ولذلك ظلت مساهمة بلادنا في الاقتصاد العالمى وحركة التجارة الدولية لا تذكر رغم توفر الموارد الطبيعية الضخمة.
ثم جاءت الحكومات الوطنية و دون ان تنظر الى أنها تجلس على (لغم) ضخم من الموارد وان عليها استثمارها للمساهمة في حل مشاكل البشرية انغمست في طراعات بائسة وعقيمة تنبىء بانعدام كامل للافق والخيال وتتجاهل حقيقة ان بلادنا جزء من العالم وان العالم يحتاج لتلك الموارد والاستفادة منها.
اجتهد نظام الراحل عبود واقام بعض الصناعات التحويلية لكنها استهدفت فقط الاستهلاك المحلى ولم تساهم بشىء يذكر في التجارة العالمية، كما انه فشل في جلب استثمارات معتبرة تغير واقع الحال وتنقل البلاد نقلة اقتصادية نوعية.

اما الطامة الكبرى فقد تسبب فيها الراحل جعفر نميري. تسبب نظام النميري في كارثتين لا تزال تبعاتهما تتري. اولاهما موضوع تاميم القطاع الخاص الاجنبي والمحلى وتلك كانت بمثابة كارثة اقتصادية لم تخرج منها بلادنا حتى اليوم. اما الثانية فهى ادخاله الدين في الصراع السياسي وتطبيقه لما عرف بقوانين سبتمبر الدينية. وهذه الخيرة بجانب انها شوهت صورة البلاد ووصمتها بالتطرف الديني حتى اليوم الا انها ايضا تسببت في هروب رؤوس الاموال ونفورها من بلاد اصبح يمزقها التطرف الديني وينخر ويفت في عضد تماسكها السياسي بجانب انه حولها لدولة منبوذة من المجتمع الدولي تتحاشي الدول التعامل معها.
اما ثالثة الاثافي فقد كانت نظام الانقاذ الذي ذهب لاقصي درجة يمكن تخيلها في التطرف الديني واعلن حربا جهادية على مواطني جنوب السودان اقامت عليه الدنيا ولم تقعدها ووصل الامر ان تم تصنيفه نظاما ارهابيا (تتضاير) منه الدول والشعوب ولذلك تكالبت قوى كثيرة ونافذة عليه حتى اكتمل فصل الجنوب.

قادت كل هذه الغلواء والتطرف في سياسات الدولة وهمجيتها بين اليسار واليمين الى تأخير اندماج اقتصاد بلادنا في السوق العالمى والتجارة العالمية، وظلت موارد البلاد الضخمة حبيسة بلا استغلال، واصبحنا كالعيس في البيداء يقتلها الظماء والماء فوق ظهورها محمول، فقراء يتقاتلون فوق كنز يكفي لهم جميعا..!

هذه الحرب التى ما زالت فصولها تدور والتى تقوم بها المليشيا بالوكالة نيابة عن الامبراطورية الحاكمة والمسيطرة الغرض الاساسي منها استغلال الموارد الضخمة ودمج اقتصاد بلادنا في السوق العالمى. فالموارد المتوفرة في بلادنا تكفي لاعاشة مئات الملايين من البشر حول العالم ولا يمكن للعالم ان يظل يتفرج على هذه الموارد الضخمة التى يسيل لها اللعاب بينما نحن نتصارع حول الدولة الدينية والاشتراكية وما الى ذلك من جدل بيزنطى عقيم.

لقد طال صبر العالم علي جنوننا وسبهلليتنا اللامتناهية في محاولة حل لغز البيضة من الدجاجة ام العكس. و كما نعلم فإن سكان العالم حاليا يقتربون من التسعة مليار ويحتاجون للقوت، والقوت يمكن انتاجه بوفرة في بلادنا ومن ثم المحافظة على استقرار اسعاره، لان ندرة القوت او حدوث ارتفاع حاد في اسعاره تعنى حدوث هزات سياسية كبيرة في بلدان عدة وهو امر لن يسمح به. فالامبراطورية المسيطرة لن تسمح بحدوث هزات سياسية في الدول الحليفة لها لانه امر يضعف سيطرتها على العالم ويقلل من نفوذها خاصة و ان اجهزتها تنام وتصحي على بقاء الامبراطورية واساطيلها تمخر البحار وتترصد كل شيء وتكاد تحصي انفاس البشر.
لم يكن حميدتى والدهماء التى جمعها حوله الا اداة عهد لها القيام بال (dirty work) وتنفيذ برنامج تحول جذرى يخرج البلاد من ورطة الدولة الدينية ويعيدها للمجتمع الدولي بالصورة والشروط التى تناسبه ومن ثم يتم التخلص منه بعد ان ينتهي دوره.

كان هذا هو هدف الحرب الاساسي، اما حميدتي وغوغائه فقد كانوا الاداة المناسبة لتحقيق رغبة قديمة ثابته عند الامبراطوريات السابقة والحالية بضرورة استثمار موارد السودان ودمج اقتصاده في الاقتصاد العالمى لحل الكثير من الازمات التى ستنشاء نتيجة للزيادة في عدد البشر وندرة الموارد.
ماذا علينا ان نفعل الان بعد ان اوردنا الشطط والتطرف الديني والسبهليلية موارد الهلاك فتفرق مجتمعنا ايدي سبأ وبلادنا تقف على حافة التفكك والاندثار؟
اولا يجب ان نستوعب تماما حقيقة اننا جزء من المجتمع الانساني و عليه يتوجب علينا ان نتصرف كشعب و كحكومة مسؤولة تأخذ مصالح العالم في بلادنا بصورة جادة تماما وليس فى ذلك اى منقصة لنا فليس هذا الكوكب لنا وحدنا كما اننا لا نعيش في كوكب زحل..! وعلينا ان نستوعب ان سبهلليتنا والفوضى الناتجة من الحروب الطويلة في بلادنا تتسبب في تاخير استغلال الموارد، وان صبر العالم على رعونتنا قد نفذ! فواقع الحال يقول ان التجربة اثبتت اننا شعب مهتم بالشجار والقتال والاحتراب اكثر من اهتمامه بالاستقرار والتعايش والبناء والانتاج والتطور.

في بلادنا ما يكفي لأن نطعم انفسنا ونطعم ربما كامل افريقيا، لكننا للاسف نستورد قوتنا من الشعوب الاخري ولا نرى في ذلك منقصة وعار..! ورغم ان بوسعنا ان نكون اليد المانحة حولنا انفسنا بفضل ( صناجتنا) الى يد متلقية واستمراءنا الامر ولم نعد نخجل من الحديث عن وصول بواخر امريكية تحمل قمحا او ان روسيا قد تبرعت لنا بقمح مجانى…! عندما يصبح مثل هذا العار مقبولا عند الشعب فتأكد ان الامة في خطر! امة لا تستح ان تتسول قوتها من الشعوب مع ان بوسعها انتاجه وازيد..!

حبانا الله بكل شىء لكننا تركنا كل شىء ودخلنا في شجار وحروب محتدمة منذ الدول السنارية حتى يوم الناس هذا…! هلك عشرات الملايين ونحن سادرين في ركوب رأس لا اعرف له مثيلا وكأننا لا يمكن ان نعيش الا تحت ظلال السيوف و لا نعرف طريقا للسلام..! هل توقفنا لنسأل الا يوجد طريق أخر ..!
إن واقع الحال يقول إننا فشلنا في الاستفادة من ما عندنا من موارد وهى موارد ضخمة وبدلا من استغلالها وتحقيق الرفاهية لشعبنا اصبح ابناؤنا يسافرون لرعي الماعز في صحاري نجد او المخاطرة بالغرق في البحر المتوسط هربا من جحيم تضرم ناره عقول بائسة وتفكير قاصر وخيال مجدب!

الان يحتاج العالم لما تحت ارجلنا وسياتيك بحميدتى او بغيره المهم في الامر ان هنالك موارد اصبح العالم في امس الحاجة لها وسيعمل بطرق شتى للوصول لها حتى لو اضطر لفكفكة الدولة وتشريد المجتمع. جميع الدول مهتمة باطعام شعوبها ونحن منغمسين في جدلنا العقيم نحكى عن بطولاتنا وننسي اننا نتسول قوتنا من الشعوب! نحن في حاجة ماسة الى اعادة ترتيب المفاهيم وتصحيحها فالبطولة الحقيقية هي ان نطعم شعبنا و تطال هباتنا الاخرين! تلك هى البطولة الحقة!

اخر نقاط هذا المقال الطويل التى تمثل سببا آخر للحرب الحالية هي الاوهام التى ما تزال تعشعش في رؤوس البعض بأن هنالك شىء اسمه الدولة الدينية! فمنذا العام ١٩٨٣ دخلت بلادنا في جحر ضب خرب اوردها المهالك و اضاع ثلثها ويهدد الآن وجودها من اساسه. لقد كتب الكثير من المفكرين والمثقفين عن وهم الدولة الدينية وما ابقوا ولكن لا حياة لمن تنادى! وحقيقة يصاب الانسان بالصدمة عندما يسمع بجماعة تتحدث عن اقامة دولة دينية وفي ذات الوقت تتسول دولتهم قوتها من عطايا الخيرين من الشعوب! هل هنالك نفاق وكذب على الذات اكبر من هذه..! لا يخامرنى شك ان احد اسباب هذه الحرب عقوبة الهية على النفاق الذي يمارسه البعض ومحاولة الكذب على الله جهرة وتحميل خلقه فوق ما يطيقون. ورغم قناعتي الراسخة من ناحية فكرية ومفهومية انه لا توجد دولة دينية من اساسه، الا ان المحزن ان البعض يريد ان يقيم دولة دينية حسب فهمه مع انه فاشل حتى في توفير لبن الاطفال، بل حتى في تدريب ما يكفي من القابلات…! هذا التنطع وهذا الكذب والادعاء الاجوف هو اكبر وهم تعيشه الامة وقد اوردها المهالك واضاع عليها اربعة عقود وادخلها في حروب ضروس لم ولن تنه كما انه حمل الناس فوق طاقاتهم وافقرهم. وبدلا من ان يرسل الناس اطفالهم للمدارس اصبحوا يرسلونهم للاسواق لتوزيع البضائع بالدرداقات ليسدوا رمقهم… ترى اية امة تلك التى سيصنع مستقبلها اطفال الدرداقات..!
لقد اثبتت التجربة ان مشروع الدولة الدينية غير قابل للتطبيق كما اشار الدكتور عبد الوهاب الافندى قبل عدة سنوات في احد مقالاته، وغيره كثيرون من داخل (ام تلاليف) الاسلاميين، ولذلك فإن قليل من العقل ورافة بعباد الله الذين طحنوا تحت اوهام البعض اصبح لازما. فحال شعبنا يغنى عن سؤاله.

مشكلة التطرف الديني واوهام الدولة الدينية هي انها تنفر العالم من الاستثمار في بلادنا وتعكس صورة مشوهة للبلاد نحن في غنى عنها. وبما انها تنفر المستثمرين وتخلق اجواء غير مواتية للاستثمار لذلك فهى تصطدم مع حوجة العالم للاستفادة مما عندنا من موارد، ولان العالم يحتاج للموارد فلن تعجزه الحيلة في اعادة ترتيب الاوضاع بما يناسبه ولو عن طريق مليشيا منفلته تدمر الدولة والمجتمع، وشعبنا لا بواكى له يتشرد ويعيش في مسغبة، بل تشرد حتى اغلب دعاة الدولة الدينية انفسهم.
زبدة القول، ان الحرب في بلادنا لن تنته طالما ظللنا نعتقد ان بوسعنا فرض مفاهيمنا للتعايش على البشرية! لاننا لسنا في وضع يمكننا من فرض شروط التعايش. فنحن امة فقيرة هشة البنية الاجتماعية نحتكر حيزا واسعا من موارد الكرة الارضية وبدلا من اعماره والاستفاده منه مع الشعوب الاخري، حولناه لمسرح كامل للعراك والدواس.
لن تنه الحروب في بلادنا ان لم نقبل بشروط التعايش مع البشر الاخرين، و ما يسمى بالحوار السودانى سوداني يجب ان يتناول كيفية التعايش مع العالم والكيفية المناسبة للخروج من العزلة المضروبة على بلادنا… ذلك هو مربط الفرس.
ان لم نقبل ببعض شروط التعايش مع العالم سيخرج لنا (حميدتات) كثر حتى تنهار الدولة ويتفكك المجتمع، وعندها لن يكن ممكنا تطبيق اشتراكية ولا دولة دينية لان قوى التاريخ ستكون قد قضت على الدولة والمجتمع، وسيكتشف دعاة الاشتراكية والدولة الدينية انهما يؤذنان في مالطا.

اتركوا الشطط واكثروا من العقلانية، فالسياسة هى فن الممكن.
حلنا الوحيد هو البحث عن كيفية التعايش مع العالم..خذوا في الاعتبار مستقبل الاجيال القادمة واكفوها شر الحروب والتشرد.

هذه الأرض لنا

بورتسودان
١٤ ابريل ٢٠٢٤

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق