مقالات

السودان.. أزمة غياب الأخلاق

النذير إبراهيم العاقب:

ليس من شك أن الشعب السوداني كان ولوقت ليس بعيد مضرباً للمثل في الأدب والاحترام والحشمة والأمانة المسنودة بالأخلاق الحميدة، وهذا بإعتراف كل العالم وخاصة دول الخليج، والتي لولا السودانيين الذين تفانوا في خدمتها وتطورها بكل تجرد ونكران ذات، مستبصرين بالأمانة والخُلُق القويم، وتلك حقيقة لا ينكرها إلا مكابر.
ولكن الواقع السوداني المعاش الآن، عكس الماضي تماماً، حيث أنني لا أتصور أن الأزمات التي نعيشها الآن في حياتنا، على مستويات عدة لها سبب أصيل، وهو غياب الجانب الأخلاقي والقيمي في حياتنا، فالواقع أن المُشاهد لسلوكيات الكثير مِنَّا في الوقت الراهن لتصيبه دهشة شديدة مما آل إليه أمر المجتمعات السودانية، والحقيقة الثابتة أن الأخلاق لم يعُد لها مجال في غالب الأحيان في واقعنا المُعاش، وكأنها تدفعنا إلى التخلف والتأخُّر في جميع الميادين، ودون أن نشعر نستبدل بأخلاقنا الأصيلة ما يُسمى الأخلاق النفعية التي تبرر الوسيلة للوصول إلى الغاية التي يريدها أي إنسان في حياته، مهما كانت هذه الوسيلة مخالفة لديننا وعاداتنا وتقاليدنا.
وهذا واضح على مستوى الأفراد والمجتمع، حتى الدولة، فالفرد إذا إنعدم عنده الوازع الخُلقي، لا شك أن ذلك يظهر في المجتمع، وتكون له آثار سلبية ومخيفة، وهذا ما لاحظناه في الآونة الأخيرة من أحداث القتل والدمار والنهب والإغتصاب، في أكثر من مكان، وغير ذلك كثير من الأحداث المؤسفة، فأين مَكْمَن المشكلة؟!.
ولعل أصل الداء لدينا أننا لا نواجه أنفسنا بالمشكلة الأساسية، التي تؤثر على كل مجريات حياتنا، ولا نبحث لها عن حل ناجع، وليست لدينا في غالب الأحيان الإرادة الحقيقية لتغيير الأوضاع وتحسين الأخلاق، الأمر الذي يُوجب علينا علينا أن نعيد حساباتنا ومراجعة أنفسنا في أخلاقنا ومعاملاتنا، والنظر بعين الناقد لتصرفاتنا، وسؤال أنفسنا.. هل غياب الأخلاق سيحقق لنا ما نريد.. وهل المعرفة النظرية بتلك الأخلاق دون تطبيقها يفيدنا.. أم إنه من الواجب علينا أن نعيش بأخلاقنا الراهنة ونتواصل ونتعايش بها؟!..
لاسيما وأن الأخلاق هي رافعة المجتمع، فحين تكون الأخلاق موجودة في سلوكيات أي مجتمع من المجتمعات فهذا يعني أن هذا المجتمع متحضر ومتمدن، ويسعى إلى التقدم والرِّفعة بين الأمم، كما أن الأخلاق هي معيار بقاء الأمم والحضارات، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي من قبل..
إنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
فإنْ همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

وليس من شك أن الهدف العام في الإسلام أن يلتزم المسلم بالأخلاق الحميدة، ويكون هذا الالتزام إرضاءً لله عز وجل، ولا ينبغي بتاتاً أن يكون هدفه مدح الناس له لأن ذلك يُعدّ من الرياء، وكذلك لا ينبغي للعاقل أن يكون هدفه من وراء ذلك الكسب المادي فقط، فالإسلام أيضاً يهدف إلى بناء مجتمع يقوم على التراحم والتعاون والإيثار وحب الخير للناس، من خلال علاقات حسنة مع الوالدين والأبناء والأزواج والأرحام والجيران والمجتمع ككل وجميع المسلمين، بل وحتى غير المسلمين، ويتعدَّى ذلك إلى الحيوان والجماد، فالإسلام يهدف إلى حَمْل المسلم على التحلي بمكارم الأخلاق والعيش في ظلها، وإن الإسلام يدرك تمام الإدراك ماذا يحدث لو أُهملت المبادئ الأخلاقية في المجتمع وسادت فيه الخيانة والغش والكذب والسرقة وسفك الدماء والتعدي على الحُرُمَات والحقوق بكل أنواعها وتلاشت المعاني الإنسانية في علاقات الناس، فحينعة لا محبة ولا مودة ولا نزاهة ولا تعاون ولا تراحم ولا إخلاص.
والثابت أن للأخلاق والقيم أهمية كبيرة في تحقيق الإستقرار الإجتماعي، والذي يتم فيه إحترام القواعد الأخلاقية السائدة في المجتمع، فإذا ضعف الإلتزام الخُلُقي بين أفراد المجتمع، بدأت المتاعب والإضطرابات السلوكية، وبدأ الشك بالقيم والثقافة المحلية كذلك، حتى يصبح تحقيق الذات وحيازة الإعتراف الإجتماعي مُتعَارِضَين مع إحترام القواعد الأخلاقية السائدة، وعندها يكون تأثير القيم والضبط الإجتماعي قد ضَعُفَا كثيراً.
وبالتالي يجب أن يكون هناك حرص على بيان أن الخلق الإسلامي قائم على قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، أي أن القواعد الخلقية في الإسلام تدور على عدم السماح للمسلم أن يضر نفسه، أو أن يصدر عنه الإضرار بالغير، إضافة إلى كونها مصدر خير عميم للفرد والجماعة، فعلى المربي أن يعي هذا ويوضِّحه في كل خُلق يتناوله بالنقد أو القدح، ويأتي بالبديل من الأخلاق الفاضلة في الإسلام، وبهذا يكون قد حقق ما يصبو إليه من تهذيب.
وهنا نشير إل. أن الدور التربوي للمدرسة لا يقل أهمية عن دورها التعليمي، فلا فائدة من تخريج أجيال متعلّمة بلا وعي أو أخلاق أو مهارات تُمِكِّنها من إستغلال ذلك العلم، وقد إقترن الدور التربوي للمدرسة بدورها التعليمي منذ نشأتها الأولى، ففي صدر الإسلام كان المسجد هو المدرسة النظامية الأولى للمسلمين، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تطور الأمر فأنشأ بجانب المساجد كتاتيب لتعليم الأطفال وتربيتهم، وأخذ الأمر في التطور إلى أن وصلنا إلى نموذج المؤسسة التعليمية الذي نعرفه اليوم، وقد تغيَّر الشكل وتعددت الآليات، ولكن ظلَّت المدرسة تؤدي نفس المهمتين المنوطتين بها، وهما التعليم والتربية.
ومن أهم الركائز المهمة لتقويم السلوكيات لكل فئات المجتمع، الإعلام الذي يجب أن يؤدي دوراً مهماً وحاسماً في رفع مستويات السلوك القويم، ويجب على المحطات الفضائية والصحافة التعامل بجدية مع الفساد الأخلاقي والسلوكي وعدم التستُّر على من يتسببون في إفساد المجتمع، ومن ثم تقديم البرامج الهادفة مع التركيز على حُسن الخلق والتربية الصالحة والقدوة الحسنة، وتاريخنا الإسلامي مليء بمثل هذه النماذج بدلًا من التنافس العقيم على المسلسلات والدراما غير الهادفة سوى التسلية.
والمجتمع الأخلاقي والبيئة الصالحة لهما دور كبير في بث الأخلاق الحميدة في نفوس الأفراد، فإذا كان المجتمع مؤمناً موحِّداً عقائديَّاً، فهو نظيف أخلاقيَّاً، والقانون الأخلاقي يأتي في درجة ثانية بعد الإيمان، لأن الأخلاق لا بد لها أن تنبثق من عقيدة، وبمقدار ما تكون الأخلاق في المجتمع قوية سليمة بمقدار ما يكون المجتمع راقياً ومتماسكاً.
ومن ثمَّ يمكن أن نُجْمِل أسباب الأزمة الأخلاقية في ضعف التَدَيُّن في نفوس العديد من المسلمين، والتَصَوُّر الخاطئ لشرائع الإسلام وأحكامه وروحه، وغياب القدوة الصالحة في كثير من المجالات، وطغيان الجانب المادي والاهتمامات الدنيوية في العلاقات والأعمال، وقلة البرامج التوعوية والأنشطة التي تُعنَى بالجانب الأخلاقي، وقِلَّة التربية الخُلُقيَّة في مناهج التعليم على كافة المستويات، وعدم سن أنظمة وقوانين تحافظ على المبادئ والقيم الأخلاقية العامة، وتوقيع العقوبات المناسبة على مرتكبي الجرائم الأخلاقية المتجددة.
وإذا أردنا أن نُصحِّح إتجاه البوصلة مرة أخرى فعلينا أن نُولِي الأخلاق عناية كبيرة في حياتنا لكي ننهض مرة أخرى، ونسعى أن نكون في الوضع الذي يليق بالأمة الإسلامية التي صدَّرت الحضارة إلى العالم كله حينما كانت في كامل قوتها.
ولا شك أن هذه الأمة كالغيث لا ينقطع خيرها وفيها خير كثير، ولا ينبغي لأحد أن يَحكُم على الأمة جمعاء بفقدها الخُلُق الحَسُن أو الفساد أو نحو ذلك من الأحكام الجائرة التي تُشعِرُ باليأس والإحباط والقنوط، وليس هذا سبيل المؤمن المُتبصر في دينه، وإنما المؤمن يُنبِّه إلى الأخطاء ويُعالجها ويُحسِن الظن بربه ولا يقطع الرجاء به، ويتفاءل من أجل إصلاح ما أفسده الآخرون.
وحقيقة الأمر أن من معالم الحضارة والرقي، التمسك بالأخلاق والعيش بها، لاسيَّما وأن الحضارة تتكون من أربعة عناصر تتمثل في المواد الاقتصادية والنُظُم السياسية والتقاليد الخُلُقية ومتابعة العلوم والفنون.
فهل نطمع في أن تنتهج مجتمعاتنا السودانية تلك القَيَم والمُثُل الأخلاقية الحميدة لتعود إلى رشدها من جديد؟!.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق