مقالات

سعادة رئيس القضاء.. مئةٌ من الإبل وليس إثنين من الضأن

د.عبد الكريم الهاشمي:

كرم الله الإنسان وأحسن صُنعه، وخَلقة، فقد خلق الله سيدنا آدم ابو البشرية بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله خليفة في الأرض، واكد الحوار الساحر الذي دار بين الله جلّ علاه وملائكته عليهم السلام، والذي اكد خلافة الإنسان على الأرض حيث جاء في فيه {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} “البقرة: 30”. اقتضت حكمة الله ومشيئته ألاّ يخلق الانسان عبثاً أو لهوا، وألاّ يتركه سدًى ولا هملا، ولا يدعه طعاماً سائغاً للمجرمين والطغاة، فسن الله الشرائع لتأمين مصالح الناس، وجلب المنافع لهم، ودفع الضُر عنهم، وتقليل المفـاسد وتعطيلها. إن من اكبر المفاسد والاخطار التي يتعرض لها الانسان هي زهق الارواح البشرية وفناءها، حيث جعل الإسلام مكانة رفيعة النفس، فأثنى الله على من يسعى ويحرص على إحياء النفس، وذم قتلها ومصادرة حقها في العيش فقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) “سورة المائدة ـ الآية 32”. حرص المشرّع الحكيم على تكريم الإنسان، فأمر بحفظ الدماء، والأنفس، وشرع لحفظهما القصاصَ تأديباً وردعا، وإصلاحاً وزجراً. ومن الاحكام التي شرعها الله وسنها رسوله الكريم الدية، وهي جزاء يجمع بين العقوبة والتعويض، حيث فيها من الزجر والردع ما يستحقه الجناة والقتلة، ويضمن سلامة الأنفس من الفناء والزوال. والدية واجبة في القتل الخطأ، والقتل شبه العمد، وفي القتل العمد إذا قَبِلَ أولياء الدم الدية بدلا عن القصاص، فمن المعلوم بالضرورة ان القتل العمد يجب فيه القصاص، النفس بالنفس، أي إعدام القاتل. تدفع الدية من الإبل وهذا هو الأصل الأصيل، أما بقية الأنواع مثل البقر والغنم والذهب والفضة ففيها اختلاف بين الفقهاء، وفي صِحتها نظر عند العلماء. حدد المشرع دية الرجل بمائة ناقة، والمرأة بخمسين ناقة، ودية الطفل مثل دية الكبير إن كان ذكرا أو أنثى. إن الدية محددة شرعا ولا يجوز إنقاصاها عن مائة من الإبل، فيما يمكن زيادتها عن مائة إذا كان القتل عمدا يستوجب القصاص، فلاهل القتيل المطالبة بأكثر من مائة من الإبل مقابل إسقاط حقهم في القصاص. تناول المشرع السوداني الدية في المادة المادة (42) من القانون الجنائي للعام 1992م حيث عرفها بانها مبلغ من المال يدفع تعويضا للمجني عليه، في حالة القتل العمد، وشبه العمد، والقتل الخطأ. واعتمد المشرع السوداني مقدار الدية المتفق عليه بين العلماء وهو مائة من الإبل، أو ما يعادل قيمتها من  النقود، وفقا لما يقدره, من حين لآخر, رئيس القضاء السوداني، وذلك بعد التشاور مع الجهات المختصة. إلا ان المعتمد عند القضاء السوداني، والمعمول به في المحاكم، هو المقابل المالي للإبل، ووفقا لاخر منشور جنائي أصدره رئيس القضاء السوداني بالرقم (4) للعام 2016م فان مقدار الدية المغلظة (370) الف جنيه، وهي الدية الخاصة بالقتل العمد، اذا سقط القصاص بالاتفاق مع اهل القتيل بالتنازل من حقهم في القصاص، أما مقدار الدية الخاصة بالقتل شبه العمد والقتل الخطأ فهي (330) الف جنيه.
لقد كثرت في الآونة الأخيرة الانتهاكات على النفس البشرية، حتى صارت النفس البشرية مهينة رغم تكريمها، وصار القتل ايسر من شرب الماء، وتساهلت كثير من المجتمعات في القتل العمد وذلك بتغيير عقوبة القصاص الى ديات، وشاركتهم الدولة في ذلك، حتى استسهلت تلك المجتمعات قتل النفس البشرية لتفاهة مبلغ الدية، كما ارتفعت نسب الموت والقتل بالحوادث المرورية والتي يصنفها القانون السوداني بالقتل الخطأ الذي يوجب الدية والتي لا تساوي قيمتها قيمة إثنين من الضأن. اغرى ضعف قيمة الدية الكثيرين لإستسهال قتل النفس البشرية، بل إن بعض الحمقى يهددون خصومهم على رؤوس الاشهاد بالقتل ودفع ديتهم، مما يهدد حياة الكثيرين في ظل الانتهاكات التي تشهدها البلاد. جريمة القتل جريمة نكراء لا يرضاها الله تعالى، بل إن زوال الكعبة لأهون عند الله من قتل النفس، وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بهذه الجريمة، فشددت في عدم ارتكابها، وبينت عاقبتها في الآخرة خلودا ابديا في جهنم حيث قال تعالى “ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما” النساء 93″ عليه لابد للقضاء السوداني من اعادة تقدير قيمة الدية، وذلك للتضييق على الجناة من ارتكاب هذه الجريمة النكراء، وردع مرتكبها، وزجرا التهاون واستسهال قتل الانفس واسترخاص دمها، حيث تعتبر النفس اهم الضرورات الخمس التي نص الشرع وحرص على المحافظة عليها. إن القيمة الحالية للدية في القنانون الجنائي السوداني لا تكفي لشراء اثنين من الضأن، ولا تكفي لشراء بعيرٍ واحدٍ، دع عنك مئة ناقة، فكل المعطيات تقود لضرورة مراجعة مقدار الدية في ظل التضخم المتسارع الذي تشهده البلاد، فلا تُرخصوا يا سعادة رئيس القضاء دم الانسان الذي كرمه الله ايّما تكريم. ولضمان استقرار قيمة الدية وكفايتها يجب ان يتم دفع كمية من الذهب والذي يعتبر مستودع جيد للقيمة المالية، بدلا من القيمة المالية والتي قدد تتآكل بسبب التقلبات الاقتصادية.

Krimhashimi5@gmai.com
0912677147

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق