مقالات

التعليم العالي.. فشلٌ في مجابهة التحديات ووهن في إدارة الأزمات

د.عبد الكريم الهاشمي:

تأثرت مؤسسات التعليم العالي جراء الحرب الدائرة في السودان (15 ابريل 2023م)، كغيرها من المؤسسات والقطاعات الخدمية الأخرى، حيث انعكست تداعياتها السالبة على أوضاع العاملين في التعليم العالي، وعلى العملية التعليمية والبحثية والتدريب، كما تحولت مقار بعض الجامعات الي ثكنات عسكرية للمليشيا المتمردة، كما فقد بعض العاملين حياتهم بسبب القتال الدائر. ربما تتفاقم هذه الاضرار إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، وربما تزداد سوءاً بعد الحرب، مما يزيد الطين بِلّةٌ. لم تكن مؤسسات التعليم العالي إستثناءً ولا بِدَعاُ، فقد تعطل فيها انسياب الخدمات كما المؤسسسات الأُخرى، ولكن ما يميز المؤسسات التي لحق بها ضرر، انها لم تستكين لصدمة الحرب، ولم تقرر التعايش مع الازمة كيفما اتفق، مثل ما فعلت وزارة التعليم العالي، إنما نهضت واستفاقت من صدمتها، فاستأنفت عملها وعادت لاداء نشاطها وتقديم خدماتها، بعد توفيق اوضاعها وفقا لسياسة الأمر الواقع، كأن لم يكن شئ قد حدث، إلا ان وزارة التعليم العالي قد إستسلمت تماما للازمة والكارثة التي حلت بها، ولم تبذل جهدا  في كيفية التعامل الايجابي معها، حيث كان من المتوقع ان تحيل التحديات Challenges إلى فرص Opportunities . من الصعوبات والتحديات التي فشلت الوزارة في التعاطي معها بإيجابية، بل لم تحرك اي ساكن تجاهها، الاوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها العاملون في مؤسسات التعليم العالي (هيئة تدريس- إداريين-تقنيين-حرس – عمال) حيث ادت هذه الأوضاع المأساوية لعجزهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية واحتياجات أُسرِهم في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة، وفي ظل التضخم الجامح الذي ادى الى ارتفاع مؤشرات الاسعار بصورة غير مسبوقة، ولِمَا أصاب رواتبهم من حرمان ونقصان، أما الحرمان فإنهم لم يصرفوا رواتبهم لاربعة شهور متتالية، وأما النقصان، فظلت رواتبهم تتعرض لخصم بنسبة 40%، دون أي مبرر أوتوضيح لهذا الخصم المتعسف. بات الشغل الشاغل للعاملين بالجامعات هو الضغوط الاقتصادية التي يواجهونها، وبالطبع سيؤثر هذا الوضع، سلبًا، على صحتهم النفسية والذهنية، وينعكس ذلك على أدائهم، إذ تتراوح الرواتب في الجامعات بين 200 الف جنيه كأعلى راتب للبروفيسور، و40 الف جنيه للعامل . علما ان وزير المالية في اكثر من لقاء صرح بأنهم يمنحون العاملين في الدولة مرتباتهم كاملة (دون خصم “40%” كما تفعل الجامعات)، إلا أن وزارة التعليم العالي استمرت في الخصم بحجة ان وزارة المالية هي المتسبب في ذلك، وعجزت الجامعات في معالجة هذه الفجوة، كما عجزت وزارة التعليم العالي في توضيح اسبابها او معالجتعها. إن التناقص في قيمة العملة وتآكل قيمتها، والارتفاع المطرد في الاسعار، جعل الراتب المعتدى عليه بلا قيمة. إن الوضع الذي يعيشه العاملون في التعليم العالي، يلقي على مدراء الجامعات مسؤولية مهنية تقتضي البحث عن حلول معالجة الاوضاع التي يعيشها العاملين، وعدم التفريط او المساس بحقوقهم، سيما في الجامعات التي إنتظمت فيها العملية التعليمية، ويؤدي فيها العاملون واجبهم بكل اخلاص وتفاني، فقد صمت مدراء الجامعات صمت القبور، وتركوا العاملين يواجهون الاوضاع الاقتصادية المذرية، فالرواتب ما عادت تكفيهم لدفع تكاليف المواصلات الداخلية للوصول الى مكان عملهم، دع عنك الحصول على وجبة افطار. إن المعاناة التي يلاقيها العاملين بالتعليم العالي ترتب مسؤولية اخلاقية ودينية على مدراء الجامعات فهم المسؤولون المباشرون لتصحيح هذه الاوضاع وذلك بتوفير ظروف ملائمة للعاملين للوفاء بالتزامهم، أو إغلاق ابواب الجامعات، كما الجامعات الأخرى التي لم تفتح ابوابها ولم تنتظم فيها الدراسة. إن مدراء الجامعات شركاء في ما يتعرض له العاملون من معاناة وسيؤسألون امام الله عن هذه المعاناة، فكثير من مدراء الجامعات فتحوا جامعاتهم لتحقيق مكاسب، إما شخصية براغماتية، واما لإرضاء رئيس، او وزير، او لاغراض سياسية. بالرغم من ان الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، والتي بالطبع تعطل كثير من القوانين واللوائح، إلا ان بعض الجامعات تمارس نوعا من التعسف مع منسوبيها، فلا القانون ولا العرف يسند  مثل هذه الممارسات، وذلك للاوضاع الاستثنائية التي جعلت الوزارة تعجز عن الوفاء بحقوق العاملين، وتفشل في حمايتها، فهذه الاوضاع لها قوانينها ولوائحها التي تتطلب التحلى بقدر كبير من الحكمة والمرونة في التعاطي مع اوضاع العاملين. من ناحية أخرى فشلت الوزارة في ايجاد صيغة تميز بها العاملين بالجامعات التي أستونفت فيها الدراسة، ويؤدي العاملين فيها واجبهم بالوجه المطلوب، إلا أنهم ظلوا يتقاضون ذات الراتب الذي يتقاضاه زملاءهم في الجامعات التي لم تُستأنف فيها الدراسة، فأي عدل وإنصاف هذا، الذي يساوي بين من يعملون ويواظبون، والذين لا يعملون. ظلت الوزارة مكتوفة اليدين، عاجزة عن اجتراح تدابير تستطيع من خلالها الجامعات وضع معالجات لحماية الطلاب من الاضرار التي تترتب على توقف الدراسة، فكان من الممكن أن تبادر الوزارة بوضع تدابير تسمح للجامعات التي انتظمت فيها الدراسة باستيعاب الطلاب الراغبين في الالتحاق بها، دون تعقيدات او تصعيب، فبدلا من ان يهاجر الطلاب خارج السودان بحثا عن فرصة لمواصلة دراستهم كان الأولى، ان يجد تلك الفرصة في الجامعات السودانية، بل ما يؤسف له ان العكس تماما هو ما يحدث الآن، حيث تضع الجامعات كثير من العقبات امام الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بها لمواصلة دراستهم داخل الوطن، حيث يُطلب من الطالب احضار مستندات، يصعب الحصول عليها في الظروف الطبيعية، دع عنك ما تعيشه البلاد من ظروف ايسر ما يقال عنها انها بالغت التعقيد. كان من المتوقع ان تبادر جامعاتنا المحترمة، بتقديم مبادرة لصالح الطلاب، بالإستيعاب او الاستضافة، وبالطبع لم تبادر وزارة التعليم العالي بالزام الجامعات بتسهيل ضوابط التحويل من جامعات صارت ثكنات عسكرية الى جامعات تنعم بالاستقرار، ولم تسعى للبحث عن منح دراسية خارجية لتخفيف آثار معاناة الطلاب، علما ان وزارة التعليم العالي ظلت في السنوات السابقة تبادر بحل مشكلات الطلاب الاجانب من الدول التي مرت بذات الظروف التي يمر بها السودان مثل اليمن والصومال وسوريا وفلسطين بتوفير مئات المنح الدراسيية، إلا أن وزارة التعليم العالي عجزت ان تبادر بذلك لصالح الطلاب السودانيين. اضاعت الجامعات فرصة كبيرة بعدم استيعابها للطلاب السودانيين الراغبين في مواصلة تعليمهم داخل السودان، فلجأوا للالتحاق بجامعات خارجية في دول مثل مصر ويوغندا ورواندا وجنوب السودان، بسبب الفشل الذي استغرق ادارات الجامعات في وضغ خطط استراتيجية سليمة تستطيع ان تحيل التحدي الى فرصة. كان المأمول ان تبادر الجامعات التي تنعم بالاستقرار بإستضافة بعض الجامعات التي يستحيل فيها إستئناف الدراسة وذلك لما توفر لها من بنية تحتية جيده تؤهلها لاستضافة مثيلاتها من الجامعات، فكان حريٌّ بها ان تقدم هكذا مبادرات، فمثلا ان تستضيف جامعة كسلا جامعة الزعيم الازهري، وأن تستضيف جامعة القضارف جامعة النيلين، وتستضيف جامعة البحر الاحمر جامعة الخرطوم، وهكذا بقية الجامعات، ويمكن ان تكون الاستضافة للكليات المتناظرة، ثم تتبعها الكليات الاخرى، او لكليات العلوم الانسانية، اذا تعثر الامر في استضافة الكليات التطبيقة، فبقليل  من التفكير والتدابير كان يمكن ان تساهم وزارة التعليم العالي والجامعات في احداث اختراق في إدارة الازمة وفقأ لإستراتيجية تفتيت اﻷزﻣﺔ Crisis Fragmentation Strategy ببصيرة استرشادية، ومن ثمّ معالجة آثارها، وإستعادة الأوضاع كما كانت عليه قبل اندلاع الحرب. ان الاستسلام للازمة التي تحدق بالتعليم العالي، ولافرازاتها السالبة، دون اجتراح مبادرات لتلافي تلك الآثار، امر لا يشبه وزارة التعليم العالي والجامعات التي تعد بيوت خبرة واستشارة، ينتظر منها المجتمع المبادرات الكبيرة التي تخرج الوطن من ازمته، وتساهم في اعماره بعد ان تضع الحرب اوزارها، فتعجز في ايجاد حل لازمتها، أعجز علماؤنا في ايجاد وسيلة تمكن الطلاب من مواصلة تعليمهم، وهم الذين ظلوا يقدموا المحاضرات والندوات عن كيفية ادارة الازمات، وعن التخطيط الاستراتيجي الذي يبين كيفية التعامل مع التحديات، وحول التعليم عن بعد، وامتلاك الوزارة لبنية اتصالات لا تتوفر لغيرها مثل شبكات “سودارن” و”شمس” فضلا عن أن الجامعات بها كليات ومراكز متخصصة في تقانة المعلومات، فليس هنالك مبرر في عدم مواصلة الدراسة عبر النت “Online” إلا انه الفشل الذي يمشي على قدمين. هنالك هجرة كبيرة لاساتذة الجامعات إما بسبب اللجؤ او النزوح لكن لم تعر الوزارة هذا الامر قدر من الاهتمام. إن العاملين في التعليم العالي قد ضربوا مثلا جيدا في التضحية سيما في الجامعات التي انتظمت فيها الدراسة وهذا امر مطلوب وجيد، ولا منّ فيه، فالراهن الذي تعيشه البلاد يستوجب التضحية بالنفس والمال في مثل هذه الظروف، ولكن ينبغي ألا يستغل صمتهم، وألا يُفسر بانه قبول بهذا الوضع المهين، فستؤدي هذه الاوضاع الى صعوبة إنجاز مهامهم التدريسية والادراية بالشكل المطلوب، فالتعويل على رباطة جأشهم واخلاصهم تكتنفه كثير من المخاطر، اكبرها الغبن الناتج من عدم مساواتهم برصفائهم في كثير من المؤسسات ممن يتقاضون رواتبهم كاملة. لا يُعوِّل العاملين في التعليم العالي على مدراء الجامعات في المطالبة بحقوقهم أو المدافعة عنها، فهم غير مهتمين وليسوا متضررين “الجمرة بتحرق الواطيها” فقد انكفأوا على ذواتهم مكتفين بما يوفره لهم المنصب من امتيازات. السؤال الذي ظل يندلق بإلحاح لماذا ظل العاملون في التعليم العالي مستمرين في عطاءهم رغم المعاناة التي ظلت تتجدد وتتزايد كلما اسفر صبح؟ ولماذا ظلوا مستمرين في أداء واجبهم رغم الاعتداء السافر على مرتباتهم بخصم 40% من جملة المرتب.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق