منوعات وفنون

في زمن الغربة والارتحال

الطيب سعد الدين:

من أسوأ الأحاسيس للنفس أن تشعر بالغربة وأنت داخل وطنك ،، ناس أمدرمان قلوبهم مخبوءة تحت ألسنتهم لا يخفون شئ سمتهم الصراحة والنصيحة حارة(بدوك ليها قافلة في وشك) تابعت ذلك مع جاري العزيز النجم الاجتماعي الراحل الهادي نصر الدين المشهور (بالهادي الضلالي) كنت أجالسه تحت ضل الضحى أمام منزله العامر بشارع ودالبصير بود نوباوي، وبعد عودة الرئيس نميري لمنزله إنضم لمجلسنا شقيقه مصطفى نميري،، ذات صباح وقفت أمامنا عربة فارهة ترجل منها شخص ذو ملامح واضحة، يلبس جلابية بيضاء تفوح منها رائحة ممزوجة بعطر الباترا الفرنسي ونكوتين السجائر ،، الهادي كان يفاخر أنه ملم بكل تفاصيل رموز البلد، رد تحية القادم ببرود كعادته مع من لا يعرفهم، القادم عرف نفسه، معاكم صلاح عبد الله وذكر انه جاء لزيارة والده الذي سكن حديثا في الحي في عمارات تمددت كما السرطان في ميدان كلية التربية ، ومضى يقول يا الهادي انا سعيد جدا لان والدي يسكن الى جواركم وأرجو ان تتواصل معه،، قاطعه الهادي، يا اخوي صلاح عبد الله (حاااف كده) ما عرفتك إنت من وين ،،، انا صلاح قوش،، صمت الهادي برهة ثم قال،،، قوش عدييييل،، وضج المكان بالدهشة والخوف،، ذهب قوش والتفت الهادي ناحيتي وجبينه يتقطر عرقا مع انو الدنيا صباح، يا ابو الطيب، انا لا عارف اقول ليك كراعك حارة ولا قادر افارقك لكن لازم نفرتق القعدة دي القصة جابت ليها (قوش) عديييل،،، وقتها كان قوش متسيد البلد طولا وعرضا،،، حاولت أن اخفف من وطأة الفجيعة وكعادتي مارست الضحك الجواني وحتى في احلك المواقف دائما ما اجري حواراً داخلياً ما بين عقلي وقلبي وواصل الهادي حديثه،، يا اخوي انا شغلتي دي ما بتخارج مع ناس قوش ديل وكجنت ود نوباوي وقلبي اباها تب،،، مضت الايام ولم يحدث شئ،،،
بعد سنوات أطلت الحرب وقادت الناس الى المجهول وتفرقوا في الديار، ولأن هناك براح للتعرف على الناس خاصة الذين غادوا أمدرمان القديمة قسراً وجاءوا للثورة،
في حياتي أتبع منهج الملاحظة لرصد أحاسيس من حولي ليس تحسسا إنما لاقرأ ملامحمهم واخفف عنهم أحزانهم وهو نوع من المؤاسآة وتخفيف وطأة الوجع،،، فالوجع في الحرب (راااقد) واحد من هؤلاء تقدم به العمر لكنه رشيق يؤدي صلاته قائما وحينما يفرغ منها يتخذ ركنا قصياً داخل المسجد ويمسك بعصاه وينقر برفق على فرش المسجد، ويسرح بعيدا، جسده هنا لكن قلبه هناك، دخلت عليه بمدخل حبيب لنفسه حينما علمت انه كان يعمل بسوق امدرمان، قابلني بلطف شجعني أن ادخل معه في دردشة فتخت نفاجاً عبرت من خلاله الى فضاء البوح عما يعتمل بداخله مسترشدا بمقطوعة عصافير الخريف للرائع حلنقي (وكتمت اشواق الحنين، عايز الدموع يتقلو، ورجعت خليت الدموع يرتاحو مني وينزلو) شوف يا أخوي انا عشت في سوق أمدرمان ده ٦٠ سنة بقعد فيهو من صلاة الصبح لحدي صلاة العشاء كان طلعت الا أمشي مقابر أحمد شرفي أو البكري (صرتي) مدفونة في السوق وأنا كمان ما تشوف الشيب ده، زول حبوب وعاشق ولهان ومتيم عديل ما قاصد النسوان نحن كبرنا على الحكاية دي،، انا افتقد روحي صرت جسد بلا قلب أداري دموعي لكن مرات بغلبني وتنزل وتفضحني قدام الناس،، انا من قمت بعشق العصافير النادرة والديوك الرومية بشتغل في تربية وبيع العصافير، اظل في حالة حوار طوال اليوم مع هذه الكائنات التي أعشقها حرمت نفسي من المغريات والعيش مع بناتي لاني لا أستطيع العيش خارج عالمي الخاص،،، انا الآن خارج دائرة الحياة هائما على وجهي بعد أن دخلوا علي مدججين بالسلاح وطلبوا مني ترك كل شئ حتى عصاتي التي أتوكأ عليها تم نزعها من داخل فؤادي، قلت له اتركني اصطحب معي عصافري، كان رده أن وطأ عليها بي (بوته) وهي تصرخ من وقع القسوة فكرت ان ارتمي تحت بوته ويقتلني انا ويترك عصافيري، لكن عاجلني بضربة كادت أن تفقدني روحي،، مرت أيام فلا أنا حي ولا انا ميت،، المهم اخرج بعد صلاة الصبح علي اجد ضالتي المنشودة،، ابحث بين الاشجار عن مجرد صوت عصفور يعيد لي روحي.
طيبت خاطره وقلت له الأيام الصعبة تأتي بعدها الأيام الممتعة وبداخلي احساس ،، مرة اكتب ومرة تغلبني الحكاية..
يا لهف قلبي على مدينة كل جريرتها أنها تملك تأريخا باذخا.
أمدرمان/ يوليو ٢٠٢٤م

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق