منوعات وفنون

بين مكتبة البشير الريح ورائحة الموت.. كان اسمها أم درمان

الطيب سعد الدين:

خلال تجوالي في حواري أم درمان مع الصديق العزيز محمد البشير الريح، حفيد الشيخ البشير الريح، أشهر شخصيات أم درمان في أعمال المال والخير،، تتوزع بيوتهم واملاكهم بين السوق الكبير وحي البوستة والهاشماب، والمنطقة الصناعية.

وقفنا عند مقام مكتبة البشير الريح العامة التي أوقفها جده للإطلاع وإقامة الأنشطة الأدبية والفنية،، دار بي الزمان دورته فأعادني إلى أوائل التسعينات حينما كنا على أعتاب التخرج من الجامعة ووقتها كانت أمدرمان ضاجة بالحركة السياسية والنشاط الإبداعي وميلاد الاغنيات فظهرت فرقة عقد الجلاد وتسيد مصطفى سيد أحمد ساحات الغناء واكتسح فئة الشباب بقوة وبرز عبدالله صوصل في تجربة جديدة (رجل المسرح الواحد).
نغادر داخليات الجامعة عند أول المساء ونعود إليها مع خيوط الفجر الأولى تحت أضواء النيون الخافتة لا نخشى شيئا فالأمان كان لا يحتاج إلى (شرطي) الحياة ضاجة بالحيوية، فالإيحاء بالشعور الإيجابي يطرد أي إحساس بالخوف وحركة الناس هي التي تفرض واقعا يدعوك لممارسة التسكع في شارع العرضة دون أن تلوي على شئ.
والقوم كانوا يأتون أفواجا إلى ساحات جامعة الأحفاد لحضور الاحتفال السنوي (أسبوع الأحفاد) وكنا نسميه (أسبوع الأحفاد وجهجهة العباد) فحسناوات الأحفاد ومجموعة الكورال كن قادرات على صنع الإحساس بالمتعة والدهشة الغنية بالتفاصيل.
وأنا بين التذكر والحنين شدني الماضي إليه بقوة ووجدت نفسي أردد رائعة الجيلي عبدالمنعم التي تغنى بها وردي:
يا لقلبي عاد من بعد النوى يطوي شراعا
مرحبا يا شوق أغمرني شجونا والتياعا
فوداعا للذي شيدته بين ضلوعي
فتداعى.
هزني بقوة ما آل إليه المكان، حي الأمراء العريق صار حائط مبكى، ثمة روائح بقايا جيفة لم تجد من يسترها، حطام أثاثات المنازل، ثلاجة يشير عمرها لأيام (ناس فلان جابو ليهم تلاجة) فهي قطعة نادرة مكانها المتحف الآن تستخدم لتتريس الطرقات، صور تذكارية بمناسبة الزواج ملقاة على قارعة الطريق يعود تأريخها لأيام سطوة الفنان الذري إبراهيم عوض، كخيار أول لحفلات الأعراس في ستينات القرن الماضي،، وهو يردد:
يا زمن وقف شوية
أديني بس لحظات هنية
بعدها شيل باقي عمري
شيل شبابي
وشيل عينيا
توقفت عند شيخ يرتدي سروال وعراقي ورغم قساوة الحرب لكن ظل ملبسه ناصع البياض، سألته هل غادرت بيتك أيام الحصار،، قال لي بصوت قد تملكه الحزن تماما، كيف أغادر وأنا روحي مغروسة في هذا المكان، نحن (العبسنجية) يقصد سكان العباسية أولاد (مرفعين الفقرا) نستمد انفاسنا من أزقة وحواري العباسية، ومضى يقول: سكبت آخر أدمعي وانا أودع رفقاء الطفولة والصبا والكهولة، مات بعضهم حسرة لما آل اليه حال الحي وبعضهم بالرصاص الغادر،، رائحة الموت كانت تزحم المكان لم نتمكن من دفنهم حيث تعودنا أن نذهب بهم الى المقابر،، ضمت ساحات وشوارع الحي جثامينهم الطاهرة.

تمنيت أن يبكي الرجل ليرتاح لكن يبدو أن ألم الفجيعة جفف الدمع في مآقيه واستوطن الحزن بداخله لم استطيع تحمل فجيعته فودعته على أمل أن أعود اليه في لحظات أفضل،
داهمتني مرة ثانية ليالي مكتبة البشير الريح استدعت ذاكرتي صوت الرائع محمد جبارة وصوته الذي يأخذك الى عوالم التطريب الموغل في حنين الطمبور وكان وقتها ضيفا على المكتبة وغنى رائعة حميد (نورة):

نورة ما قدرت تمانع
وتقنع الناس المعاها
مره شافت في رؤاها
طيره تآكل في جناها
حيطة تتمطى وتفلع
في قفا الزول البناها
والخلق بقت بلاها
والشمش بلعت ضحاها
فسرت للناس رؤاها
وقالوا جنت وما براها.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق