مقالات

حرب العبث.. المخطط البيٌٍنات والشواهد

جمال محمد صالح:

إنٌ أسوأ ما في حرب العبث ليس هو هدم المُنشاَت والبُني التحتية وتشريد الإنسان. تلك سيئة واحدي المُنكرات. إلا أن ماهو أسوأ من ذلك هدم البُني “الفوقية” للإنسان، وتشريد الاذهان. إن تسارع الأحداث المُتولدة عن تلك الحرب و”هولها ” افقدنا القُدرة علي التركيز والمتابعة وإمعان النظر في التفاصيل. فتصالحنا مع “اللامنطق”، وتقبلنا ” اللامعقول ” ونحن في حالة من الشرود الذهني. فأصبحت تمر الأحداث الجسام علينا ونحن ننظر فيها كالبُلهاء لا نُلغي لها بال. حتي تقبلنا اشدٌَ الأحداث لا منطقية، ولم تهتز عقولنا لاوضح المشاهد لا معقولية. ما أكثر المقاطع المُقلقة للنفوس الصافية، المُربكة للعقول الصاحية، المُثيرة للشجون اللامتناهية، تلك التي نشاهدها ليلاََ ونهار ونحن مستريحي البال وكأنما نشاهد فيلماََ من أفلام الخيال
سنشاهد معاََ بعض تلك المقاطع، مركزين علي ما خلف الشاشة وما بين السطور. وحتي تكتمل الصورة، وتستبين دلالات المشهد، كان الاحري بنا أن نتابع مسيرة ” الفُرقاء ” منذ بداياتها وحتي المُنتهي، لنتبين كيف بدأ المشهد، وكيف سار، والي أين انتهي به المطاف. تبدأ تلك المسيرة ببدايات تخلق الطرف “الرديف” وتلك الأيدي “السحرية” التي اَخت بينه والطرف “الحليف”. فتشرح لنا صورة الموجات” فوق الصوتية ” كيف تخلق ذلك الطرف وهو في رحم الغيب، ثم كيف “نطق” وهو لم يذل في المهد صبيٌا، ثم كيف صار “فجأة” شاباً فتيا، ثم كيف قاتل “جباراََ” عتيا، ومن أين كان يأتيه “الرزق” وهو في “المحراب”، وكيف نمت الصلة بينه والطرف” الحليف ” حتي صارا صديقين حميمين. كل تلك المحطات يحكيها لنا المقطع من المشهد. فنري بوضوح حالة التخلق، ونتابع معاََ مسيرة الصيرورة. كما يتخلل المقطع عرضاَ مُسهباََ لتفاصيل “الاغداق” بالنعم و” الدلال ” المثير للدهشة والذهول. كُل ذلك كان مفهوماََ ومعلوم. ولكن، ونحن نتابع مجريات العرض، تتبدل الأحوال “فجأة”، وتتغير ملامح الحليف والرديف في المقطع. فيظهر” الأصدقاء ” بمظهر ” الفُرقاء “. حينها يبدو المقطع في غاية التعقيد، عصياََ علي الفهم والاستيعاب. ويُطلب منا نحن المتابعين سرعة تبديل القناعات والافكار ، وإخلاء ذاكرتنا من كل البيانات المختزنة عن ماضي العلاقة بين الحليف والرديف لمواكبة ما يجري في المقطع من عروض. فنفقد قدرتنا علي التركيز. وما يزيد من الإرباك أن الصورة في هذا الجزء من المقطع تبدو” مشوشة “بما لا يمكننا من رؤية تفاصيل العرض. وهو تشويش متعمد كجزء من الرؤية الاخراجية. وكأن المُخرج يريد أن يقول لنا دعكم عن هذة الجزئية من المقطع. ولمليء الفراغ يطلب منا ذات المُخرج بمنتهي” الدوغمائية ” أن نتصور أن الحليف قد اختصم مع الرديف وصارا ” غريمين ” بعد أن كانا ” حميمين ” دون إبراز الحيثيات الدالة علي ذلك التحول ” الدراماتيكي ” بوصفه أحد المسكوت عنه، وينتهي المقطع، فتنقطع متابعتنا لتلك المشيرة. فنجد أنفسنا مضطرين للقفز فوق الأحداث لنتابع مقطعاََ آخر من المشهد وفي النفس شيء من حتٌي، من قبيل: هل بالفعل ” إفترق ” الأصدقاء؟،
ومتي؟، وكيف؟، ولماذا؟، وماهو أصل الحكاية؟!. من هنا تبدأ مسيرتنا مع “اللامنطق” و “اللامعقول”. حيث تبدأ مسيرة ” التدجين ” و” التجهيل “. فنجتهد ونجتهد لإقناع أنفسنا بأنه ليس من المستحيل أن يقوم شخص ببناء عمارة من عشر طوابق أو تزيد، باذلاََ فيها كل مُدخراته. وبعد إكتمال البناء والتشطيب، يقوم ذلك الشخص، وفي إحتفالية رسمية، بنسف ذلك المبني، أو التناذل عنه طواعية. وبهذا المنطق المتهالك نستوعب سر الغموض في تحول العلاقة بين الحليف والرديف.
المقطع الثاني من المشهد هو سقوط ود مدني واحتلال ولاية الجزيرة. بدءاً نقول أن النصر والهزيمة صنوان في الحرب. فكما تسعي القوات للنصر، فليس بمستغرب في حقها الهزيمة. وبطبيعة الحال فإن الهزيمة يتبعها سقوط المدن واحتلال الأراضي. تلك هي طبيعة الحرب. وقد سقطت من قبل الجيكو والكرمك وقيسان وكاودا، وكادت أن تسقط الدمازين. إلا أن للنصر شروط، وللهزيمة أسباب. فقد سقطت الجيكو والكرمك وقيسان حينما كانت القوات تقاتل هناك دون عتاد ومؤن حتي أكلت الطير. وكان الجنود يقاتلون وهم يسيرون في الاحراش حُفاة. لذلك سقطت الجيكو وجاراتها. فماذا جري في مدني؟. تقول الوقائع أن” مسيرة ” الطرف الرديف قد تحركت من مشارف العاصمة الخرطوم قاصدة إلي مدني في وضح النهار. وان المواطنون كانوا يتابعون أخبار ” المسيرة” عبر وسائل التواصل كأنما هم يتابعون أخبار “سيرة” . وان أخبارها كانت معلومة للجميع بكل تفاصيلها بما في ذلك عدد الاَليات المتحركة والطريق الذي تسلكه. علماً بأنها كانت تسير علي أرض سهلية مكشوفة خالية من الموانع، ولم تتعرض لها قوات “الغريم” إلا في تُخوم مدني أو داخل الازقة والحارات. فأين كان جيشنا الهُمام طيلة هذة المسيرة؟. لسنا من الخُبراء العسكريين، ولكن ما نعلمه أن العدو حينما يدخل المنطقة الحيوية فلا معني للدفاع. هنا نسأل: الم يجد جيشنا منطقة حيوية طيلة المسافة ما بين الخرطوم حتي مدني؟! . علماً بأن القوة الضاربة للجيش هي الطيران، الذي يجد مبتغاه في الأرض السهلية المكشوفة.
تاسيساََ علي ذلك، فهل ما جري في ولاية الجزيرة كان حرباََ بالمفهوم المألوف؟!، أم كان إجراء شكلي تم بموجبه التسليم والتسلم؟ . رقم وضوح البيٌنات، إلا أننا نميل إلي القول بأن ما جري هو إخفاق عسكري، لا لقناعة راسخة فينا بذلك الزعم، ولكن لإراحة النفس من هواجس الظنون. لأنه ان لم يكن الحال كذلك، فهو التواطؤ وهو خيانة للوطن. وإلا فما معني أن ترابط القوات في مواقعها وهي ترغُب مسيرة العدو ولا تنطلق لمُلاقاته إلا داخل الازقة وبين الحارات وفي القري والارياف، ان لم يكن الهدف الخبيث هو إقحام المواطن البريء في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل ليكون هو وقودها!! . والأنكي والأمر أن “السيرة” الصاخبة لم تتوقف عند ولاية الجزيرة، بل واصلت مسيرتها وسط الأهازيج والتهاليل نحو سنار وسنجة، ولا ندري ماهو قادم في مقبل الأيام. يتم كل ذلك تحت ظلال معركة” الكرامة “. فإن كان ما حلٌ بنا هو مخرجات معركة الكرامة، وان الواقع النكد الذي نعيشه الآن هو” التجلي ” الفعلي ” للكرامة “، فكيف يتجلي الذُل والهوان؟!
وهل لم يذل في الوجود حالة يطلق عليها الذُل والهوان غير الحال الذي نعيشه الآن لم نُدركها بعد؟!
أنا اري لتفسير ما يجري فإننا بحاجة ماسة ومُلحٌة للاتفاق علي تعريفات مجرٌدة لمفهوم الوطن والوطنية، والولاء والخيانة، والذُل والكرامة. فربما كان اختلاط المعاني، والتباس المفاهيم هو وراء ما نتخبط فيه من تيه وهوان.
المقطع الثالث هو الموقف من التفاوض. لقد طرح الوُسطاء . منبراََ للتفاوض دعوا إليه الفُرقاء، فانقسما إلي فريقين. فريق سار في ركب التفاوض ووافق عليه، وآخر اشترط جلوسه للتفاوض إخلاء الطرف الآخر منازل المواطنين. الآن دعونا نناقش في هدؤ وجاهة الرأي في ذلك الطلب. بدءاً هناك حقائق لابد من التأكيد عليها، الا وهي ان احتلال منازل المواطنين واستخدامها كارتكازات عسكرية امر ينكره القانون والعُرف والأخلاق. وان إخلاء تلك المنازل يجب الا يكون امرأ للتفاوض والمساومة عليه. لأنه من الحقوق الطبيعية للإنسان كحقه في الحياة ولكن دعونا ننظر للامر من زاوية أخري، وهي أن احتلال تلك المنازل هو من افرازات الحرب. وان الحرب قد افرزت ماهو اشدٌ واخطر من ذلك، الا وهو قتل الأبرياء وهدم منازلهم وليس مجرٌد احتلالها. ومما لا شك فيه أن قتل الأبرياء وهدم منازلهم اشدٌُ جُرماََ من احتلالها. من هذا المتظور فايهما أكثر أولوية واشدٌ الحاحاََ: هل هو وقف الحرب لتجنب قتل الابرياء وهدم منازلهم، أم إخلاء تلك المنازل؟! . نعم ان إخلاء المنازل ربما ترتب عليه عودة المشردين والنازحين إلي ديارهم. إلا أن العودة من دون وقف الحرب تعني أن تحصدهم الحرب وتهدم منازلهم علي رؤوسهم. اذاََ لماذا التركيز علي ماهو مهم وترك ما هو اهم؟! ، ولماذا التركيز علي النتائج والافرازات وترك معالجة الاسباب التي قادت إليها؟! . وماذا يفيد المواطن أن يظل بداره والقزائف تتساقط علي راسه؟!، واضعين في الاعتبار أن هناك آلاف الاسر قد اخلت منازلها طوعاََ دون أن يطلب منهم اخلاءها، ولم يتم احتلالها!!!. هرباََ من الموت. مع كل ذلك دعونا نفترض أن الطرف الآخر قد امتنع عن إخلاء تلك المنازل لأسباب شخصية غير أخلاقية ولا وطنية، وهي رغبةََ منه في اطالة أمدّ الحرب لمزيد من الخراب، وقد ربط اخلاءها بوقف الحرب. فهل هذا يبرر لنا مُجاراته والسير معه في ركاب الجهالة والطيش لتكون النتيجة هدم المنازل وتدمير الوطن؟! . يقول التاريخ أن اليابانيين قد استسلموا في الحرب العالمية لا لحُبنٍ تملكهم، ولكنهم علموا أن العناد يعني قنبلة أخري أكبر واشد فظاعة تمحو ما تبقي من الوطن. لذلك نادي صوت العقل فيهم أن كفي عناداََ حمايةََ للوطن. فمتي يصحو صوت العقل فينا؟! . إنِ ما نراه أن التباكي علي منازل المواطنين هو كلمة حق أُريد بها باطل. وإن الهدف الخبيث من وراء ذلك هو ارباك المفاوضات وايقاف حركة السير بها إلي الامام بوضع “العربة” أمام “الحصان” ، مما يؤدي إلي اطالة أمدّ الحرب وازهاق مزيداََ من الأرواح، وهدم المزيد من المنازل. فمن هم أعداء الوطن؟! .
من ناحية أخري، فإنه علي الرقم من أن الحرب قد قضت علي الكثير والكثير من الوطن في دارفور وكردفان والخرطوم. وهي جرائم باهظة الثمن. ولكن كان من ااممكن عند الموافقة علي الهدنة ووقف الحرب تقليل جزء من تلك الخسائر. كان علي اقلٌ تقدير يمكن تجنب ما جري في ولاية الجزيرة ومن بعدها سنار وسنجة. كان يمكن إنقاذ حياة مئاَت الأنفس البريئة وسلامة الأعراض والممتلكات. وبالله عليكم كيف كان سيكون حال من بادر بالموافقة علي ايقاف الحرب عند الله سبحانه وتعالي واحي تلك الأنفس البريئة؟!، وبالمقابل كيف سيكون حال من حال دون ذلك؟!!. الم يكن إحياء تلك الأنفس جديراََ بالتضحية في سبيله بكل ماهو ممكن من حظوظ النفس حينما تعلو مصالح الوطن علي المصالح الشخصية؟!.
والآن نقولها بالصوت العالي علها تجد أُذُناََ صاغية: أن لا تحسبوا أن الدمازين والقضارف وكسلا وبور سودان وشندي وعطبرة وهي آخر ما تيقي لنا من”جُحور ” للهاربين في وطنِِ “كان” إسمه السودان. فلا تحسبوها في حصنِِ حصين وفي مأمنِِ من التخريب. فعلينا أن نُنجي
” سعد ” فقد هلك “سعيد”
المقطع الرابع هو انضمام
( درع البطانة ) إلي صفوف الطرف الرديف. هذا المقطع يختلف كثيراً عن غيره من المقاطع. فهو يتصف بالضعف البائن في الإخراج وعدم إحترام عقول المشاهدين. تقول الحيثيات الظاهرة أن ذلك الدرع قد تم انشاؤه كقوة نظيرة لقوة الطرف الرديف لحفظ التوازن بين الغرب والشرق، بوصفه (الموجب) في الشرق الذي يكافيء ( السالب) في الغرب. ومن المعلوم في علم الفيزياء أنه إذا التقي السالب بالموجب تفجرت الطاقة الكامنة وحدث الاشتعال. إلا أن ما اثار الدهشة والارتباك هو انتقال كامل الدرع إلي صفوف الطرف الرديف ليلتقي السالب بالموجب دون أن نشهد أي اشتعال. بل ظلت الطاقة في حالة كمون وسكون. فباي قانون من قوانين الفيزياء يلتقي السالب بالموجب ولا يحدث الاشتعال؟!! . لقد تجلت السقطة الاخراجية بكل ابعادها في ذلك الانتقال المفاجيء المثير. فإن ينتقل فرد أو مجموعة أفراد او فئة محدودة من هذا الطرف أو ذاك فهو امرُُ مفهوم، ربما اقتضه المصالح الشخصية لبعض للافراد، أو نتيجة لتباين الرؤي عند بعضهم. أما أن ينتقل كامل فريق (المريخ) بما فيه (رئيس) النادي إلي صفوف الهلال أو العكس فتلك اعحب العجائب !!!! . والاعجب من ذلك أن يقع حدث بتلك الضخامة ثم يمر وكأن شيءََ لم يكن، فذاك دليل قاطع علي حالة التبلٌُد الذهني الذي نعيشه، وذاك من اسوأ سيئاَت حرب العبث. ان ما يمكن استنباطه من ذاك الحدث أن الطرفين لم يكونا في واقع الأمر ( سالب) و (موجب)، بل هما ( سالبين) أو هما أولاد (حُفرة).
أيها السادة: بعد كل ما رأينا في تلك المقاطع من ذلك المشهد (التراجيدي) نسأل في براءة وعفوية:
هل فعلاً أن الحصة “حرب”
كما زعم الزاعمون، أم أن الحصة لعب علي ” الدُقون؟!!

(ألا هل بلغت؟، اللهم فاشهد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق