مقالات
عسكوري يكتب: تباريح زمن الريح
علي عسكوري:
لا يدهشنى تكلس وعقم الحركة السياسية حاليا، عملت وسط هذه القوى يمينا ويسارا لعقود، وانتهيت إلى أنها مصابة بعجز فكري مستوطن، مقيم وراسخ.
رغم أن بلادنا تمر بحرب وجودية تكاد تعصف بها تماما، إلا أن القوى السياسية عجزت بالكامل عن توحيد رؤيتها لطرح فكرة جامعة تلم شعثها لإخراج البلاد من المخاطر الحالية.
ماتت أفكار التغيير برحيل قرنق والترابي. والرجلان اختلفت أو اتفقت معهما كانا يحملان فكرتين محددتين وإن كانتا متناقضتين.
فالترابي رأى أن الإسلام يمكن أن يوحد السودانيين ولذلك طرح مشروع الدولة الإسلامية وحشد مناصريه وتلاميذه واتباعه لتنفيذ فكرته وشن حربا جهادية على جنوب السودان خسرها في نهاية المطاف وانتهت بفصل الجنوب كما هو معروف.
مرة اتهمه الجنرال البشير بفتح جبهة الحرب في دارفور عن طريق حركة العدل والمساواة التي تزعهما الراحل د.خليل إبراهيم أحد تلاميذه الموثوقين، وسواء أن صحت اتهامات الجنرال البشير أو لم تصح، فقد اندلعت الحرب في دارفور وما زالت مشتعلة.
ما يمكن قوله أن الترابي كان له تصور لدولة دينية متطرفة تصادمت في منهجها وطريقتها وممارساتها مع طبيعة المجتمع السوداني المتسامح دينيا وهو ما أضعفها. في نهاية المطاف سعى الترابي نفسه لتقويض أركانها ونفض ما غزلته يداه.
أكبر دليل على ذلك مشاركة أنصاره بقوة في الحراك الذي أسقط نظام الجنرال البشير الذي كان امتدادا للدولة التي أسسها، لم تسعف الرجل الأيام ليرى نجاحه في تقويض بنيان دولته التي بذل الغالي والنفيس لتأسيسها وأفنى عمره سعيا وراء قيامها، فرحل مخلفا قدرا هائلا من الفوضى السياسية.
أما قرنق فقد كان له تصور مناقض لتصور الترابي، فقد رأى أن الإسلام لن يوحد السودانيين، وأن هنالك تهميشا في السلطة والثروة لمجموعات كثيرة، وأن الدولة يجب أن تكون محايدة تجاه الأديان، وأن الحل في دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات.
لم تسعف الأيام قرنق أيضا ليرى قيام دولة في جنوب السودان لا تزال تبحث عن هوية وفكرة تجمع قبائلها ومجتمعاتها.
وهكذا تمخض صراع الفكرتين إلى وجود دولتين فاشلتين لا توفران استقرارا ولا أمنا ولا تنمية.
لم يطرح من سبق الرجلين من الساسة فكرة محددة، واعتقدوا أن دولاب الدولة ومؤسساتها وأجهزتها التي خلفها الانجليز كافية للنهوض بالبلاد، فانتهوا إلى أجهزة دولة تكرس الاستعمار الداخلي فقط.
رغم كل ذلك، كانت تلكما هما الفكرتين التين دار حولهما الصراع المميت أفضيتا بنا إلى دمار جنوبا وشمالا والحبل على الغارب ولا تزال معاول التفكيك التي نتجت منهما تعمل.
أخطر ما نتج عن ذلك الصراع الشرس هو فقدان المواطنين في الشمال والجنوب الثقة في دولتيهما وأصبح الجميع يبحث عن دولة بديلة توفر في حدها الأدنى الآمن والاستقرار.
مليشيا الدعم السريع في جوهرها تعتبر أحد أهم نتائج حرب الجنوب وصراع قرنق والترابي، فإن اتهم الجنرال البشير الترابي بتأسيس حركة العدل والمساواة وذكر صراحة أنها تمثل الجناح العسكري للمؤتمر الشعبي (حزب الترابي)، فقرنق أيضا تدخل في دارفور منذ فترة طويلة عن طريق الراحل المهندس يحيى بولاد ثم حركة تحرير السودان قبل انقسامها.
تلى ذلك تناسل حركات دارفور حتى قاربت المائة حركة و الحبل على الغارب.
لكبح هذه الحركات المتناسلة – وهي ظاهرة غريبة لا أعرف لها مثيلا في التاريخ- أسس الجنرال البشير مليشيا الدعم السريع وباقي القصة معروف.
وهكذا خرجت الدولة من حرب الجنوب لتدخل في (حروب) لا حصر لها في دارفور أفضت بنا إلى ما نحن فيه.
حيال هذه الحروب والكوارث الاجتماعية والسياسية، تقف كل القوى السياسية والاجتماعية عاجزة تماما، بلا فكرة محددة تتشاكس فيما بينها، بعضها أصبح يستقوي بالأجانب والبعض الآخر هاجر خارج البلاد يجتمع وينفض بناء على دعوات القوى الخارجية، يكرر نفس الأفكار القديمة ثم ينفض، ليعود مرة أخرى لاجتماع آخر ليكرر ذات السيمفونية البالية، ثم يغط في نوم غير مهتم بدوي المدافع والراجمات.
رغم كل المآسي التي تسببت فيها الحرب، مازال غالبية القوى السياسية متمترسا في طرحه القديم، فاليمين ما يزال متمترسا في دولته الدينية رغم الكوارث التي أفضت إليها، واليسار الليبرالي ما زال منغمسا في تفاصيل خصومته القديمة مع اليمين يدعو لدولة هو نفسه لا يعلم تفاصيلها، وتظل تصفية حساباته مع الإسلاميين أهم من السلام والتنمية.
دون شك فالطرفين حريصين على إقصاء بعضهما البعض بأي تكلفة، سالت بينهما دماء غزيرة وعليه انعدمت مقومات التعايش وصعب عليهما لعق جراحهما الغائرة.
في معركة الإقصاء المحتدمة استخدما ويستخدمان جميع الأسلحة القديم منها والمستحدث. مثلا تأييد جماعة تقدم لمليشيا الدعم السريع في كل جرائمها حتى ضد أسرهم وقراهم عبارة عن وجه واحد من تلك الأسلحة، فهزيمة اليمين بكل ما هو متاح أهم لليسار والليبرالين من سلامة أسرهم ومجتمعاتهم، وهو الآخر أمر صادم وغريب يماثل غرابة عدد حركات دارفور. ترى أي درجة من العداء والكراهية قد بلغها قطبا الرحى السوداني.
تكشف هذا المواقف درجة الكراهية السياسية بين قوى سياسية مطلوب منها أن تعيش في وطن واحد..! بالطبع .. ومن وقائع الصراع لم يعد ذلك ممكنا..! فما يحدث هو محاولة إفناء القوى السياسية لبعضها البعض مهما كلف الأمر..! وإلى أن تقتنع القوى السياسية أنه ليس بوسعها إفناء القوى الأخرى وأن عليها تقديم التنازلات الصعبة لن ينته الصراع وسيفنى الوطن حتى بعد هزيمة المليشيا.
المحاولات الخجولة التي حدثت في القاهرة وأديس أبابا للجمع بين القوى السياسية كشفت إلى أي مدى وصل حجم الكراهية والإقصاء بين القوى السياسية، يخادع نفسه والآخرين من يزعم أن تلك الاجتماعات كانت ناجحة.
خلاصة الأمر، في هذا الزمن الأعرج الكالح وحتى بعد انتصار الجيش لا توجد فكرة سياسية محددة يلتف حولها الناس، وهكذا تظل القوى السياسية غارقة في أحلام ظلوط البائسة تنتظر المعجزات.
أثبتت الحرب أن اليمين لن يكون بمقدوره أن يحكم بدولته الدينية القديمة التي رحل مؤسسها، ولا اليسار الليبرالى قادر على طرح مشروع وطني تلتف حوله الجماهير لعدم وجود قائد ملهم بين صفوفه، وهكذا بلغنا مرحلة انعدام الوزن وضبابية الرؤية.
أكثر ما يعزز اليأس من القوى السياسية هو إلتجاء بعض (المثقفاتية) لما اسموه ب (تنسيقيات) القبائل، وهي ظاهرة انفردت بها قبائل كردفان ودارفور، إلتجأ هولاء المثقفاتية للمكونات البدائية يعكس بوضوح يأسهم من القوى السياسية بعد أن فقدت التأثير على الفعل السياسي.
تنسيقيات القبائل ظاهرة جديدة تحتاج إلى وقفة ودارسة، ففي ما نعلم أن القبيلة يكون لها ناظر أو عمدة الخ… لكن أن يكون لها تنسيقية فهذه بدعة اجتماعية جديدة، وليس من الواضح إن كانت هذه التنسيقيات تحت سلطة النظار والعمد أم أنها سلطة موازية، وما هي صلاحياتها؟ لله در مجتمعات دارفور وكردفان تتحفنا، كل مرة بالجديد، بدءا من الحركات المتناسلة إلى التنسيقيات التي اعتقد أنها ستتناسل هي الأخرى أيضا.
ستبدأ المرحلة الأصعب في تاريخ البلاد بعد انتصار الجيش، سيكتشف الناس أن القوى السياسية يمينا ويسارا بلا فكرة ولا تصورات محددة للحكم وتلك هي مقتلة بلادنا، فمن ما علمه الناس بالضرورة أن الدولة تبني على فكرة ورؤية محددة لأن التخبط يقود للفوضى، والفوضى تقود للجريمة ومن ثم الانهيار.
حاليا لا توجد فكرة عند القوى السياسية يمكن أن تجمع الناس.
لست متشائما ولكننى قمين بأن انعدام الفكرة السياسية هو أنجع وصفات التفكك، فالدول لا تقوم بدون فكرة محددة..! والجيوش ليس من مهامها طرح الأفكار السياسية، والقوى التي عليها طرح الأفكار السياسية جف ينبوعها ونضب معينها ومخزونها الفكري وتاهت.
هذه الأرض لنا
نشر بصحيفة أصداء يومي ٥ و٨ سبتمبر ٢٠٢٤م