رحلة البروفيسور السوداني الأمين محمد أحمد كعوره بين النجوم والحقول والعقول

بقلم: أ.محمد سنهوري الفكي الأمين:
في مسيرة الأمم، يبرز رجالٌ كأنهم أقمارٌ في ليالٍ حالكة، يضيئون دروباً لم تكن مطروقة، ويجمعون في شخصياتهم أبعاداً تبدو للوهلة الأولى متنافرة ومن بين هؤلاء، يسطع اسم الأستاذ والعالم السوداني الأمين محمد أحمد كعوره، الرجل الذي عاش حياته ناظراً إلى السماء بعين الفلكي، وواقفاً على الأرض بقدمي الخبير الزراعي، فكان جسراً فريداً بين الكونيات وعلوم التربة. لقد كانت حياته التي امتدت من عام 1922 إلى 2016 رحلة معرفية خصبة، رسمت ملامح جيل بأكمله، وأثرت المشهد العلمي والثقافي في السودان عموما وفي الجزيرة خصوصا على نحو لا يُمحى.
وُلد الأمين كعوره في مدينة ود مدني على ضفاف النيل الأزرق عام 1922، وتلقى تعليمه الأولي فيها قبل أن ينتقل إلى كلية غردون التذكارية بالخرطوم. لكن شغفه لم يتوقف عند حدود معينة؛ فبعد أن نهل من علوم الزراعة، وجد نفسه منجذباً إلى سحر الرياضيات والفيزياء، فسافر إلى بريطانيا ليدرس في جامعة برستول العريقة ، كانت تلك النقلة النوعية هي التي أرست الأساس لشخصيته الموسوعية، فهو لم يكتفِ بأن يكون متخصصاً في حقل واحد، بل أراد أن يمتلك مفاتيح فهم الكون من أصغر ذرة إلى أبعد مجرة.
عاد إلى وطنه محملاً بمزيج نادر من المعارف، فبدأ مسيرته المهنية خبيراً زراعياً في مشروع البرقيق بالمديرية الشمالية. غير أن روحه كانت تهفو إلى بناء العقول، فانتقل إلى حقل التعليم الذي أصبح ميدانه الأثير. تنقل بين مدارسه معلماً للرياضيات واللغة الإنجليزية والعلوم، ثم مديراً لمدارس ثانوية عريقة مثل رومبيك وود مدني وحنتوب ،كان يؤمن بأن تعليم الفيزياء والفلك لا يقل أهمية عن تعليم الأدب والتاريخ، وأن كلاهما يساهم في صقل وعي الإنسان وفهمه لمكانه في هذا الوجود. هذا الفكر التربوي المتقدم هو الذي ميز مسيرته، وتوجت بتوليه منصب مدير عام التعليم الأكاديمي والفني بوزارة التربية والتعليم.
لم تكن المناصب الإدارية لتقف حائلاً بينه وبين شغفه الأكاديمي. ففي مرحلة لاحقة من حياته، تولى منصب الأمين العام لجامعة أم درمان الإسلامية، وهناك وجد ضالته في تدريس علم الفلك، العلم الذي طالما استحوذ على عقله وقلبه. لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل كان باحثاً وكاتباً أصيلاً، ترك للأجيال القادمة ثروة علمية حقيقية من خلال مؤلفاته الرائدة في علم الفلك.
وفي عام 1973، أهدى للمكتبة العربية والسودانية كتابه التأسيسي “مبادئ الكونيات”، الذي يُعد أول مؤلف في هذا المجال باللغة العربية في السودان، وقد صدر عن دار نشر جامعة الخرطوم وعالم الكتب ببيروت. كان هذا الكتاب بمثابة نافذة فتحها كعورة للشباب السوداني والعربي ليطلوا منها على أسرار الكون وعجائبه، بلغة علمية رصينة وأسلوب أدبي جذاب. لقد تناول في هذا المؤلف الذي امتد لـ 197 صفحة أسس علم الكونيات ونظريات نشأة الكون وطبيعته، مقدماً للقارئ العربي معرفة علمية متقدمة كانت حكراً على المراجع الأجنبية.
ثم أتبعه في عام 1979 بكتابه الثاني “المجموعة الشمسية ومجال الجاذبية الكونية”، الذي صدر عن المكتب المصري الحديث بالقاهرة. وفي هذا المؤلف، تعمق كعوره في شرح أسرار نظامنا الشمسي وقوانين الجاذبية التي تحكم حركة الأجرام السماوية، مقدماً للقارئ فهماً علمياً دقيقاً لآليات عمل الكون من حولنا. وفي عام 1980، أكمل ثلاثيته الفلكية بكتاب “الشمس والنجوم والأرض والقمر”، الذي صدر عن دار الصحافة للطباعة والنشر، وفيه استكشف العلاقات المعقدة بين هذه الأجرام السماوية وتأثيرها على الحياة على كوكب الأرض.
هذه المؤلفات الثلاثة لم تكن مجرد كتب علمية، بل كانت مشروعاً حضارياً طموحاً لنقل المعرفة الفلكية المتقدمة إلى اللغة العربية، وجعلها في متناول الطلاب والباحثين والمهتمين في العالم العربي كما رفد المكتبة العلمية بمجموعة من الأعمال منها . نظريات نشأة وطبيعة الكون و التفكر في خلق السماوات والأرض والمنشأ الأول وبدء الخلق و رحلة الوجود و آيات الله في الآفاق (عربي وانجليزي) ،لقد أسس كعوره من خلال هذه الأعمال تقليداً علمياً جديداً في الكتابة الفلكية باللغة العربية وأصبح بحق رائد تبسيط علوم الفلك وتقديمها للقارئ العربي بأسلوب يجمع بين الدقة العلمية والجمال الأدبي.
كانت رؤيته التعليمية لا تتوقف عند حدود المؤسسات الحكومية، فأسس كلية ود مدني الأهلية، وشغل منصب أول عميد لها، لتكون منارة علمية في مسقط رأسه، وشاهداً على إيمانه العميق بأهمية التعليم الأهلي كرافد أساسي للمعرفة. لقد كان عالماً موسوعياً بحق، يجمع بين الزراعة والتربية، والفلك واللغات، والفيزياء والرياضيات، في تناغم قل نظيره. هذا التنوع المعرفي انعكس على حياته الشخصية أيضاً، فقد تزوج من سيدة سويسرية، وأنجب ثمانية من الأبناء والبنات، وعاش حياته بين وطنه السودان وسويسرا، فكان جسراً ثقافياً وإنسانياً كما كان جسراً علمياً. لقد جسد في حياته فكرة المواطن العالمي، الذي ينتمي إلى الإنسانية جمعاء، دون أن يفقد ارتباطه العميق بجذوره وهويته السودانية.
في عام 2016، رحل الأمين محمد أحمد كعورة في مدينة جنيف السويسرية، تاركاً وراءه إرثاً عظيماً من العلم والأخلاق والتفاني. لم يكن مجرد أستاذ أو عالم، بل كان “معلم الأجيال” كما وصفه الكثيرون، وشخصية استثنائية أثبتت أن الإنسان قادر على أن يحلق في سماء الفلك اللامتناهية، بينما تظل جذوره ضاربة في عمق أرضه ووطنه. لقد كانت حياته قصيدة معرفية متفردة، تحكي قصة ذلك اللقاء الخلاق بين النجوم والأرض، وتلهم الأجيال القادمة بأن حدود المعرفة لا ترسمها التخصصات الضيقة، بل يحددها شغف الإنسان وقدرته على التأمل والإبداع. إن إرث كعورة ليس فقط في كتبه ومؤسساته، بل في الروح التي بثها في تلاميذه، روح البحث الدؤوب عن الحقيقة، وحب المعرفة، والانفتاح على الآخر، وهي الروح التي يحتاجها عالمنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.