تطوير نظم الدفع القومية في السودان.. التحول الرقمي في الخدمات المصرفية وحلول الدفع كضرورة اقتصادية

الطيب الجعلي الطيب:

في ظل التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه السودان، يبرز التحول الرقمي في القطاع المصرفي وأنظمة الدفع كخطوة استراتيجية للتغلب على الأزمات المالية، وتعزيز الشمول المالي، وتطوير البنية التحتية للنظام المالي، فالاعتماد على الحلول الرقمية مثل الصيرفة الرقمية، والدفع عبر الهواتف المحمولة، وأنظمة الدفع بالبطاقات الحديثة، لا يساعد فقط على تحسين كفاءة المعاملات المالية وتقليل تكلفتها، بل يسهم في زيادة الشفافية وتعزيز الحوكمة.

يعتبر اعتماد التكنولوجيا الرقمية في قطاع المصارف والدفع وسيلة فعالة لمعالجة تحديات مثل ارتفاع حجم النقد الورقي المتداول خارج النظام المصرفي، وصعوبة الوصول للخدمات المصرفية في المناطق الريفية، وارتفاع تكاليف المعاملات، ما يجعل من التحول إلى نظام دفع رقمي مسألة اقتصادية ملحة تهدف إلى تطوير قطاع مصرفي آمن وفعال.

تكلفة المعاملات الورقية مقابل الحلول الرقمية

إن طباعة النقود الورقية وصيانتها وتوزيعها تفرض تكاليف ضخمة على الدولة والبنك المركزي. وعلى النقيض، تتيح الأنظمة الرقمية حلولاً أقل كلفة وأكثر كفاءة، حيث تقلل من الحاجة إلى التعامل النقدي المادي وتوفر وسائل دفع فورية عبر الهواتف المحمولة والبطاقات المصرفية.

هذا التحول لا يخفض فقط تكلفة المعاملات، بل يسهم في تعزيز الشمول المالي بتمكين جميع المواطنين من إجراء معاملاتهم المالية بسهولة وسرعة دون الحاجة للوصول إلى فروع البنوك أوالاحتفاظ بالنقد في بيئة غير آمنه.

مزايا التحول الرقمي في الدفع والخدمات المصرفية

1. تعزيز الشفافية وتتبع المعاملات يسمح النظام الرقمي بتسجيل وتتبع كافة المعاملات المالية بشكل دقيق، مما يسهم في تقليل فرص التلاعب المالي والتهرب الضريبي، ويعزز من قدرة الجهات التنظيمية على مراقبة التدفقات المالية بشكل أكثر فعالية وشفافية. إن هذه القدرة على تتبع المعاملات ترفع من مستوى الثقة بين المواطنين والقطاع المصرفي، وتحد من انتشار الفساد.

2. تقليل تكاليف المعاملات وزيادة الكفاءة بفضل التكنولوجيا الحديثة، يمكن للمصارف وشركات الدفع الرقمي توفير خدمات منخفضة التكلفة للعملاء، ما يخفف من الأعباء المالية على المستخدمين والبنوك، ويزيد من كفاءة عمليات الدفع بشكل عام. تعمل الخدمات الرقمية على تسهيل وتسريع إجراءات الدفع بشكل فوري، مما يتيح للشركات والأفراد إدارة شؤونهم المالية بكفاءة أعلى، ويشجع على الاستثمار والنمو الاقتصادي.

3. تعزيز الأمان المالي وحوكمة القطاع المصرفي إن اعتماد التكنولوجيا الرقمية يمنح النظام المالي السوداني مستويات عالية من الأمان والتحكم، حيث تكون جميع المعاملات مسجلة، مما يقلل من احتمالية حدوث الاحتيال. كما يوفر التحول الرقمي أدوات لتحليل البيانات والمراقبة الفورية، مما يعزز من قدرة البنك المركزي والجهات التنظيمية على ممارسة الحوكمة بفاعلية والتحكم في التدفقات المالية.

4. إدخال الابتكار في خدمات الدفع (البطاقات الحديثة والدفع عبر الهاتف المحمول) يمثل الدفع عبر الهاتف المحمول، وأنظمة البطاقات المصرفية الحديثة، أداة مريحة وسريعة تمكن المواطنين من الوصول إلى خدماتهم المالية بسهولة حتى في المناطق الريفية. يتيح هذا الابتكار تقديم حلول متنوعة وشاملة للعملاء، بما في ذلك البطاقات المدفوعة مسبقاً، وبطاقات الخصم، والدفع من خلال رمز الاستجابة السريعة (QR)، مما يعزز من كفاءة وسهولة المعاملات اليومية.

التوجه العالمي نحو الخدمات المصرفية الرقمية

يمثل التحول إلى الصيرفة الرقمية والمدفوعات الإلكترونية جزءا من اتجاه عالمي تسعى من خلاله الدول إلى تعزيز الشمول المالي، وتسهيل عمليات الدفع، وخفض التكاليف، وتقليل الاعتماد على النقد الورقي. فالدول الرائدة في مجال التكنولوجيا المالية تستثمر في بناء بنى تحتية متطورة، وتشجع الشركات الناشئة في مجالات الدفع الرقمي، وتدعم الابتكارات المالية التي تهدف إلى تقديم خدمات مالية مريحة وآمنة. ومع تزايد الاعتماد العالمي على هذه الأنظمة، فإن التحول الرقمي في السودان سيكون خطوة استراتيجية لربط الاقتصاد السوداني بالاقتصاد العالمي وتعزيز تنافسيته.

أمثلة على قصص النجاح العالمية والأفريقية في التحول الرقمي

كينيا – ام بيسا
تُعد تجربة “ام بيسا” في كينيا نموذجا ناجحا عالميا للدفع عبر الهاتف المحمول، حيث انطلقت في عام 2007 عبر شركة “سفاري كوم”، واستطاعت توفير خدمات مالية رقمية تشمل تحويل الأموال، ودفع الفواتير، وحفظ النقود، مما أسهم في توسيع الشمول المالي وتحسين جودة الحياة. واليوم، يستخدم نحو 80% من البالغين الكينيين “ام بيسا” لإجراء معاملاتهم المالية، مما أدى إلى تعزيز الاقتصاد المحلي وتقليل الاعتماد على النقد الورقي.

رواندا – التحول الرقمي للخدمات المالية
نجحت رواندا في تحقيق تحوّل رقمي واسع النطاق من خلال إطلاق استراتيجية وطنية للتكنولوجيا المالية، والتي تضمنت تقديم خدمات مصرفية عبر الهاتف المحمول وأنظمة دفع رقمية شاملة. وأدى هذا إلى تعزيز الشمول المالي ورفع نسبة المستخدمين للخدمات المالية الرقمية، خاصة في المناطق الريفية التي كانت تعاني من نقص الخدمات المصرفية.

الهند – مبادرة “الهند الرقمية” ونظام الدفع الموحد UPI
أطلقت الهند في عام 2016 نظام الدفع الموحد (UPI)، الذي يتيح لملايين الهنود إجراء معاملات مالية رقمية بسهولة عبر هواتفهم الذكية. ساعد UPI على تحسين كفاءة نظام الدفع وتقليل تكاليف المعاملات، مما جعل الهند واحدة من أكبر الأسواق المالية الرقمية في العالم. ويتميز UPI بالبساطة والسرعة، ما ساهم في تسهيل التعاملات المالية اليومية للمواطنين وخفض الاعتماد على النقد.

البرازيل – نظام PIX للدفع الفوري
في البرازيل، أطلق البنك المركزي نظام PIX، الذي يُعد نظام دفع فوري يسمح للمواطنين بإجراء المعاملات المالية على مدار الساعة. وقد لاقى PIX نجاحًا كبيرًا وسرعان ما اعتمده ملايين المواطنين، حيث ساعد على تحسين الشمول المالي، وتقليل التكاليف، وزيادة كفاءة النظام المالي بشكل عام.

دور الحكومة السودانية والبنك المركزي في دفع عجلة التحول الرقمي

تلعب الحكومة السودانية، وعلى رأسها البنك المركزي، دورا محوريا في دعم وتبني التحول الرقمي في قطاع الدفع والخدمات المصرفية. يتطلب هذا الدور وضع استراتيجيات واضحة وسياسات داعمة تضمن سهولة الوصول إلى الخدمات المصرفية الرقمية وتعزيز الحوكمة المالية، بما في ذلك:

تحديث التشريعات: توفير بيئة تنظيمية مرنة تساعد على تشجيع الشركات على تبني حلول الدفع الرقمية، وتضمن حماية العملاء وحقوقهم.

تطوير البنية التحتية: الاستثمار في تحسين شبكات الإنترنت وتوسيعها، وتوفير دعم مالي للشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا المالية.

إطلاق حملات توعية: العمل على زيادة الوعي بفوائد الدفع الرقمي وطرق استخدامه، مما يساعد على تحويل ثقافة التعامل المالي في المجتمع إلى الاتجاه الرقمي.

الحاجة لدور استراتيجي للبنك المركزي في تحديث القطاع المصرفي

يلعب البنك المركزي السوداني دوراً محورياً في قيادة التحول الرقمي، ويشمل ذلك:

تنظيم العمل المالي الرقمي: وضع القواعد التنظيمية التي تحكم التعاملات الرقمية وتضمن سلامتها وموثوقيتها.

دعم الخدمات المصرفية الحديثة: تشجيع المصارف التجارية على تقديم حلول مبتكرة في الدفع الرقمي، بما في ذلك البطاقات الحديثة والتطبيقات المصرفية المتقدمة.

تفعيل الحوكمة والرقابة: تعزيز نظام رقابي يتيح تتبع كافة المعاملات المالية والتأكد من امتثالها للمعايير العالمية، مما يعزز من الشفافية ويحد من المخاطر المالية.

التوصيات

في ظل التحديات الحالية، يعد تبني نظم الدفع الرقمية والمصرفية الحديثة خياراً استراتيجياً للسودان لتحسين كفاءة نظامه المالي، وزيادة الشمول المالي، وتعزيز الشفافية والأمان. ينبغي على الحكومة السودانية، بالتعاون مع البنك المركزي، وضع استراتيجية شاملة تضمن تحقيق هذا التحول من خلال تحديث البنية التحتية، توفير الدعم اللازم، وتفعيل الحوكمة والرقابة.

من خلال هذه الإجراءات، يمكن للسودان أن يطور نظاماً مالياً رقمياً متقدماً، يسهم في تحسين الوضع الاقتصادي، ويعزز من قدرة السودان على مواجهة التحديات المستقبلية.

الطيب الجعلي الطيب
خبير النظم المالية والمصرفية والتحول الرقمي