مقالاتمنوعات وفنون
عبدالله عربي.. إنكسر القوس وتقطعت الأوتار وهوت مكامن الالحان
بقلم/ دكتور عبدالوهاب همت:
والأحزان تنوش الناس من كل حدبٍ وصوب فإذا بجرح آخر يغور في أجساد أهل الموسيقى والغناء من عازفين وملحنين ومطربين . إنسرب بالأمس عبدالله عربي ، وهو الذي شكل مدرسة للغناء عازفاً ماهراً وملحناً مجيداً. وعربي المولود في القطينة ١٩٣٠ المدينة الصغيرة الوداعه والتي تقع على ضفاف النيل الأبيض الهاديء الجيران ، إنعكس ذلك في طبائع أهلها في التسامح والترابط والوعي الباكر ومن رحم هذا الهدوء أهدت المدينه عدداً من رجالها ، اذ جاء على رأسهم السياسي الشهير محمد ابراهيم نقد ( ود مِلِين) والذي إكتسب هذا الاسم من والده وللإسم إشاراته ومدلولاته وودملين كان قصيراً لكنه كان شامخاً زلزل الارض تحت اقدام الطغاة منذ أيام الاستعمار وحتى رحيله في مارس٢٠١٢ ، والذي لايعلمه الناس أن الراحل محمد ابراهيم نقد كان عاشقاً للغناء ويفرد لذلك وقتاً ليس بالقليل مختفياً كان أم معلناً لحياته ، كما كان صاحب صوتٍ طروب، عشق غناء الفنان حسن عطيه حد الإدمان.
والقطينه نفسها من أنجبت رمز الغناء الشعبي الاول وصاحب التفرد في كل شيء محمد أحمد عوض، والذي إنتهج لنفسه خطاً فنياً لم يفارقه طوال حياته وهو الذي بدأ بآلة الرق والايقاعات ولم يضف عليها أي آله أخرى ، فغنى للعشاق والأسرى كأجمل مايكون الغناء، وجسدت (جوبا مالك عليا ياجوبا شلتي عينيا) معانٍ كثيرة ورموزاً وقيماً للتآخي والمحبه ، ولكن آه آه. شجع الصبايا للتمسك بمن يخترن شركاءً لحياتهن ( يايابا ماتقول ليهو لا لا .. وافق عليه أنا راضيه بيهو) كذلك أجاد إجادة تامه في تقريظ دور المرأة وحقها في العمل عندما تغنى للمعلمات ودورهن الرائد في التربيه والنهضة ( المُعلمة لي بلدنا مفيدة .. المُعلمة ربنا يزيدها ).
الأنموذج الثالث الذي جاء من رحم القطينة هو البروفيسور محجوب عبيد طه حصُل على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة كيمبريدچ وهو أحد العلماء الافذاذ في العالم ، قدم اوراقاً علميه عن قوانين نيوتن بما يختص بالكتله وأثبت خطل هذه القوانين ، كما أرسل وزملائه في شعبة الفيزياء جامعة الخرطوم تقريراً مفصلاً عن اسباب تحطم المركبة ابولو١٣ الامريكيه وبعد تأكد مهندسو وكالة ناسا عن صحة ماذكره طلبوا منه الحضور قبل اطلاق ابولو١٤ وصححوا الاخطاء كما أشار لهم ، وقد رفض كل عروضهم التي قدموها له.
المخزي في الامر وعندما علم بالتعذيب الذي تعرض له إبن شقيقه ذهب وقابل كبير السحره وشكى ماجرى ، وقبل ان يعود الى منزله تم اختطافه من الطريق العام وتعرض لتعذيب لايليق لابسنه ولابمقامه وغادر الى السعودية حسيراً كسيراً وتوفى بعدها بفترة وكان ذلك في اغسطس ٢٠٠٠ ، ودولة المشروع الحضاري بدلاً عن تكريمه قدمت له مايتناسب واخلاق صبيتها.
ولان سيرة ومسيرة عربي كانت شامخه لابد من الاشارة الى أن والده كان منشداً متفرداً وهو من أوائل السودانيين الذين سلكوا هذا الدرب ما أوصله للاذاعه السودانيه فالوالد حامد العربي كان لابد له أن يبذُر في ذريته الفن الجميل. وفي وسط هذا الجو كان لابد للابن عبدالله حامد عربي ان يشق طريقه في عوالم الموسيقى بعد ان وجد الطريق معبداً تحُفه الورود والرياحين مستنشقاً عبق والده.
تعلم عبدالله عربي العزف على آلة العود في العام ١٩٤٧ في منزل الرمز قاسم أمين وهناك إلتقى بالملحن البارع خليل احمد والذي لحن للفنان الخالد محمد وردي ( ياطير ياطائر) وفي نفس المكان إلتقى برفق دربه في عزف الكمان واحد رواد الموسيقى عبدالفتاح الله جابو والذي لشدة إعجابه بآلة الكمان كان أن قام بصناعة واحدة من الحديد ليعزف بها مع نيل الالحان السودانيه عثمان حسين ، وندرة الالات الموسيقية قادته لذلك علماً بأن الالات الموسيقيه الحديثة ظهرت في السودان في العام ١٨٩٨م وظلت متداوله في اطار ضيق بين الجنود الانجليز متلازمة مع موسيقى القرب وهي من آلات النفخ الاسكوتلندية.
الى جانب آلة العود ساهمت الكمان كثيراً في تطوير فن الغناء السوداني الحديث.
وعبدالله عربي المبدع بالمولد ما أن حصُل على آلة الكمان الا وطوع قوسها وأخرج بدائع أوتارها ماجعلها تتدفق بالالحان وتُدفِق في المستلقين للموسيقى طاقات معنويه هائلة.
صال وجال عربي صولاته الشهيره ماجعله مشاركاً بالعزف في أول حفل ١٩٥٣ يشارك فيه مع عميد الغناء السوداني احمد المصطفى والذي بدوره بذر بذرة الغناء في كل أفراد أسرته الصغيرة وأبناء أخواته وإخوانه وهذا ديدن الفنانيين الملتزمين الواعين بدور رسالتهم الخالد ، ذلك ما مهد الطريق لعربي في الإنضمام موظفاً لأول فرقة في العزف تابعه للاذاعه السودانيه كان ذلك عام ١٩٥٥ ماجعله وتراً من أوتارها الاساسية ونغمةً شجيه.
بدأ عربي أولى تجاربه الشعريه بقصيدة ( العيون السود) والتي غناها الفنان حسن درار كما أن تلحينها كان كذلك اولى خطواته في عوالم التلحين.
داعب عربي الكمان ولاعبها وفعل فيها مايفعله السحره الهنود في آلاتهم.
الخرطوم جنوب بمركزها الموسيقي شكل أحد أقطاب رحى الفن السوداني هذا المكان يستحق الوقوف والدراسه المتأنيه له من قبل أصحاب الشأن وليتهم وثقوا تاريخه الشامخ المجيد.
وعربي الذي عاش في بيئة تواجد فيها الكاشف وعثمان حسين وحسن عطيه واحمد المصطفى وعبدالحميد يوسف ووردي وكابلي ..كان لابد له أن ينهل من هذا الدفق الفني المنهمر ، بل كان لابد له أن يصاب بهذا المس الجنوني الابداعي.
وبما ان طلعت فريد كان مهتماً بالفن والرياضة حينها وفي العام ١٩٦٠ ولإيمانه ويقينه الراسخ بدور الفن والفنانيين في المجتمع ان اصدر قراراً بسفر رواد الموسيقى بالسفر لتلقي علومها ووجه كل واحد منهم الى حيث مايروق له ووفقاً لميوله ورغباته فسافر برعي محمد دفع الله الى لندن وجمعه جابر الى موسكو بحكم انه كان اشتراكياً وشيوعياً، اما عبدالله عربي فإتجه الى ڤيننا وبعد عودته منها عاد أقوى عوداً اذ طور مواهبه الفطريه وبرع في دنيا التلحين وعقب ثورة ٢١ أكتوبر١٩٦٤ كان ان قام بتلحين واحدة من اجمل القصائد التي مجدت تلك الثورة السلميه الباسله وهي القصيدة التي كتبها شعراً عبدالمجيد حاج الأمين واداها الكابلي كأجمل مايكون الاداء والإبراع بتفرده في بعض مقاطعها وبإختيار عربي للاصوات النسائية في اداء بعض الكوبليهات لترتفع اصواتهن واذا الميثاق نورٌ في يدينا.
ومن ثمرات ثورة اكتوبر ان أوصلت أم الشعب فاطمه احمد ابراهيم متوجةً بعضوية برلمان الثورة في العام ١٩٦٥. وفاطمة كذلك تنتمي اسرتها الى مدينة القطينه والتي نزح اهلها من شمال السودان ليستقروا فيها وأأمل ان تواصل القطينه رفد السودان بالمبدعين.
ولان الموسيقى جرت في اوردة وشرايين عربي مجرى الدم ما جعله الابواب مُشرعةً أمامه ليدخل عوالم التلحين الفسيحه، ولان الفنان فنان فقد تنوعت الالحان التي قام بتأليفها ولحن قصيدة عن فلسطين لعثمان مصطفى ولسيد خليفه والتجاني السيوفي ولمحمد ميرغني ( سبأ) بأجراسها الموسيقيه والتي تقول
أنا قلبي زي هدهد حزين ياسبأ
شايل النبأ ويا سبأ للحب صبا
أعيدني لنوري الخبأ
سر الغرام في وجنتيك
والريدة طائعه تحت إليك
وقلبي الموله بين يديك.
ما اعظم هذا العاشق الشفيف وكيف بذائقته الفنيه ان اختار شعراً رائعاً ليضع له ألحاناً فريدة.
السر محمد علي وبدر التهامي وفضل الله جاد السيد والخواض هذه الكوكبه بلاشك ما أن ضمت أي فرقه أي واحد منهم ومعهم عربي الا وأضافوا لمساتهم الفنيه المائزه المحسوسه. وإن غابت عنا اجسادهم فقد خلدت مشاركاتهم واعمالهم وشكلت وجدان الشعب السوداني.
صلاح احمد ابراهيم من أميز وأشعر السودانيين وقد برع في الشعر بعربيه فصيحه مجودة وكذلك بعاميه موغله ومابين يامريا التي تغنى بها حمد الريح ومابين ( شين ودِشِن السياف الشين ) والتي تغنت بها عقد الجلاد تأكيد على براعة صلاح.
ومن القطينه جاء بابكر عوض والذي تولى رئاسة وزراء وبرلما وقضاء ووزير خارجيه ، ومنها محمد علي سنادة أول سكرتير لاتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل ولآل سنادة صولات وجولات.
عبدالله عربي يجلس مع قمة الملحنين اسماعيل عبدالمعين وبرعي دفع الله وبشير عباس وعبدالرحمن الريح وحسن بابكر وسليمان ابوداؤود وغيرهم.
قدم النصح لمبدعين كُثر وقد أثنى عليه الراحل الخالد ثناءً شديداً.
تقول فيروز السودان المتألقة مكارم بشير ان عربي إلتقاها في اتحاد الفنانيين انه طلب منها ان تؤدي بعض الاغنيات وعندما قامت بذلك وطار فرحاً ونادى على عدد من زملائه طالباً منهم سماع ابداعها وكان ان تحلقوا حولها منصتين. بعد ان كانت قد تعرضت لمؤامرة في برنامج نجوم الغد بعدم إنصافها لكنها شقت طريقها نحو النجومية بقوة ارادة.
شباب الكمنجات وهم كثر الاساتذة ميرغني الزين وعبدالله محمد نور والاجيال التي تلتهم ومنهم المبدع عثمان محي الدين ولمى عبدالله وساره شحاته وساره وبقية العقد النضيض مستقبل الموسيقى السودانيه وازهري عبدالقادر وماهر تاج السر (ود تور موسكو) وعبدالله محمد عبدالله وخالده الجنيد ، آمالٌ عراض ملقاة عن اعناقكم لتتواصل مسيرة الموسيقى والغناء.
ولبنات عربي المكلومات حنان وخالدة وأمينه وعديله وايمان ورحاب حار التعازي والصبر. ومن وصل مراقي عبدالله عربي بمثابرة والدكم والذي غادر وهو يزحف نحو المائه عام فهو لايموت.
فلتتوقف الحرب اللعينه ولترتد رصاصات من أشعلوها الى نحورهم طاردتهم اللعنات.