كمال جبر الله يكتب: المدينة العجوز ومساحيق التجميل

المدينة العجوز تضع مساحيق تجميل على محياها الشاحب تخفي من خلفه عمرها النضالي الذي يفوق المائة عام.
درجنا كسودانيين دائما إلى التعاطف الزائد والتعصب أحيانا كثيرة إلى مسقط رأسنا أيا كانت مدينة .. قرية أو حتى حلة صغيرة نائية ويجعلنا ذلك التعصب الموروث نضخم ذلك الحب والتعلق بالمكان أكثر مما ينبغي حتى نغير الكثير من الحقائق.
أهل عطبرة معروفون بحبهم لها وهي مدينة تستحق الحب لمن عاش فيها وتنعم واستظل بجمال أهلها وبساطتهم لا سيما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.. أبان إزدهار هيئة سكك حديد السودان وترسانتها وزخمها ومجدها التليد
بدأت رياح التغيير تهب على عطبرة منذ أن ظهر الذهب والتعدين وأصبحت معبرا للحالمين بامتلاك المعدن النفيس.
تغير وجه عطبرة تبعا لموجة التعدين الأهلى المسعور .. وعلى إثره مثلا لبست المنطقة الصناعية ثوبا جديدا وبدأت تصنع آليات التنقيب وكل ما يلزم (الدهابة) وقامت المحلية قبل ذلك بإعادة تخطيط وبناء السوق ففقدنا الكثير من المعالم والذكريات التي تعني للعطبراويين الكثير.
لسنا ضد التطور بالطبع ولكنه الارتباط الوجداني الوثيق للكثيرين وذكريات لتلك الأيام والسنوات تمثل في ارتياد لمقاهي ولشوارع ولمكتبات وحتي سوق الخضار والجزارات بل حتى (يافطات) السينما،، لا يمكن أن تفقد كل ذلك مرة واحدة .
فارق عطبرة العديد من سكانها على مدار عشرات السنين وهاجروا إلى الخرطوم لا يفرض عليهم زيارتها الا الشديد القوي، ومنهم من باعوا حتى منازلهم ثم نزلت طامة الحرب على الخرطوم بوجها الكالح ( وكل قرد طلع جبله ) فعاد أهل عطبرة اليها ليجدوا كل شيء قد تغير كل شيء..
لم تعد الملامح هي الملامح .. واستعرت نار الاستثمار للهاربين من جحيم الحرب لتشعل الشوارع بالمطاعم والكافيهات والبقالات الحديثة . فبدت كأن المدينة العجوز تضع مساحيق تجميل على محياها الشاحب تخفي من خلفه عمرها النضالي الذي يقارب المائة عام.
ورسم الوافدون مع الحرب لوحة سريالية صارخة الألوان لا تشبه هدوء عطبرة وسماءها الصافية وسكينتها التي أعتادها أهلها لا يشقها الا صوت صفارة السكة الحديد صباحا ومساءا .. صدق الشاعر حين قال “وإن أعادوا لنا الأماكن فمن يعيد لنا الرفاق” .. وهو لا يعلم أن الاماكن القديمة نفسها لم تعد موجودة دعك من الرفاق.
عفوا عاصمة الحديد والنار .. لم يعد هناك حديد ولا نار.. و لا يعرف حقيقة التحول وما فعلته ريح التغيير إلا من غاب ثلاثين عاما أو يزيد ليعود فيجد مثلا أن كلمة ( حاج الريح ) والتي تعني المحطة الوسطى في قاموس عطبرة قد تلاشت تماااااما.
رحم الله الحاج الريح السنهوري ورحم الأيام الخوالي وأهلها.
كمال الدين جبرالله محمد:
عطبرة
الجمعة 2 مايو 2025