التصوير الميداني تهديد للأمن القومي: عدسة الهاتف سلاح بيد العدو

الصادق محمد أحمد:
تشهد الساحة إنتصارات متتالية لقواتنا المسلحة على الأرض ضد المليشيات المتمردة المجرمة في جبهات المعارك المختلفة ، نشاهد كل يوم عشرات الفيديوهات التي توثق لهذه الإنتصارات ، ومعظمها يتم تصويرها بواسطة جنودنا الأبطال الذي سطروا بثبات وعزم أعظم البطولات التي سوف يخلدها التاريخ وتذكرها الأجيال القادمة بالفخر والإعتزاز.
هذه الفيديوهات يتم تصويرها إنتشاءاً بالنصر وبحسن نيه لمشاركة الشعب السوداني الذي يتوق الى سماع و رؤية مثل هذه الأنتصارات على العدو الغاشم ، ولكن بات من الضروري التوقف عند هذه الظاهرة التي تتسلل بهدوء إلى عمق المجهود الحربي وتهدد مكتسباته ، فتصوير مشاهد من ميادين القتال سواء لغنائم عسكرية أو أسرى أو مشاهد مباشرة للمعارك ،ونشر تلك المواد عبر الوسائط الاجتماعية -ما يبدو في لحظته توثيقاً لانتصار- سرعان ما يتحول إلى مصدر مهم وبالغ الخطورة لمعلومات استخباراتية قد تهدد سلامة الجنود وتكشف أسرار العمليات وتفضح طبيعة العتاد والمواقع وتحرك القوات على الأرض.
إنّ التصوير غير المنضبط دون إذن عسكري وبتقنيات شخصية يعد خرقاً لمبدأ السرية العسكرية، وهو أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها استراتيجيات الحرب ،فنجاح العمليات العسكرية لا يقوم فقط على العمل الحربي الميداني بل على الحفاظ على سرية الخطط وحجب التفاصيل ومنع تسرب أي معلومة -مهما بدت تافهة- يمكن أن يستخدمها العدو لفك شيفرة ما يدور على الأرض ، فحين تُعرض مقاطع مصورة لغنائم من الأسلحة -خاصة الأمريكية منها- أو تُصور مخازن أسلحة تم الحصول عليها بعد هزيمة العدو -كما تم في صالحة أمس- فإن ذلك يُسهّل على أجهزة المخابرات المعادية تحليل ما استلمته القوات المسلحة بالضبط كماً ونوعاً، وهو ما يُعد تزويداً مجانياً بمعلومات استراتيجية كانوا سيبذلون الكثير من الجهد للحصول عليها.
قد يقول قائل إنهم-أي العدو- يعرفون مسبقاً نوعية السلاح الذي زودوا به المتمردين – وهذا صحيح- ولكنهم لا يعرفون الكميات التي تحصلت عليها القوات المسلحة ولا حالتها الفنية ولا مدى انتشارها داخل الوحدات العسكرية ، لذلك فإن المعلومات التي توفرها الصور ومقاطع الفيديو في هذا السياق تتجاوز مجرد المشاهدة ، إذ إنها تكشف أنظمة التشغيل وأماكن التمركز وتوقيتات المعارك وتركيبة الوحدات، بل قد يُستفاد منها حتى في ضربات جوية لاحقة يتم توجيهها بدقة بناءاً على بيانات تم جمعها من “فرحة نصر” وثقها أحدهم بكاميرا هاتف.
إن القوانين العسكرية في السودان – وفي سائر الدول- تنص بوضوح على تجريم إفشاء الأسرار العسكرية أو نشر أي معلومات من شأنها أن تضر بالمجهود الحربي أو تكشف تحركات القوات المسلحة ، وتُعد الصور والفيديوهات التي تُظهر نوعية الأسلحة أو طبيعة الغنائم أو مواقع الجنود جزءاً لا يتجزأ من هذه المعلومات المصنفة أمنياً ، ومن ينشرها يخرق واجبه العسكري ويعرّض نفسه بل ووحدته بأكملها لخطر مباشر ، لذلك يجب أن يتم إصدار توجيهات صارمة بمنع كامل وشامل لوجود الهواتف الذكية أو أي أجهزة تصوير مع الجنود في ساحات القتال، وأن يُقتصر التوثيق على جهات عسكرية مخولة ومعدة فنياً وأمنياً لهذا الغرض، كما نطالب الجهات الأمنية بتفعيل مبدأ “سرية المعلومات” بأعلى درجات الحز م والصرامة ، ومحاسبة كل من يخرق هذا الخط الأمني الذي لا يقل أهمية عن خطوط النار في الجبهات.
لقد ولّى زمن الحروب التقليدية وأصبحت المعركة تدور في الميدان كما تدور في فضاء المعلومات، والصورة غير المؤطرة بالضبط العسكري ليست توثيقاً للبطولة بل قد تكون خيانة دون قصد، فالعدو يترصد ويحلل ويجمع ويبني خططه على ما نُفصح عنه نحن ، لذلك فإن السيطرة على عدسة الهاتف في هذه الحرب لا تقل أهمية عن المهارة في إستخدام البندقية.


