مقالات
إضاءة على مخرجات مؤتمر اتحاد المقاولين العالمي (CICA): “رؤية جديدة لمواجهة تحديات العصر” (2/3)
دور التكنولوجيا في حل التحديات المتنوعة بقطاع الإنشاءات
د.مهندس مستشار/ مالك علي محمد دنقلا:
عقد اتحاد المقاولين العالمي (CICA) بتاريخ 26 نوفمبر 2024 مؤتمرا في باريس بالتعاون مع اتحاد المقاولين الأوروبيين (EIC) وبحضور رؤساء وممثلي منظمات المقاولات علي مستوي العالم، ومؤسسات التمويل والانماء متعددة الاطراف، وممثلي العقود الهندسية الحديثة، حيث تم تقديم ومناقشة عدة اوراق هامة تتعلق بتطوير صناعة المقاولات ومواجهة تحدياتها وايجاد الحلول التي تمكنها من ممارسة دورها التنموي في النهضة البشرية.
ولقد تناولنا في المقال السابق المذكرة التفاهمية المقدمة من المؤتمر بعنوان “تعزيز النهج التعاوني والمبتكر لتحقيق مشاريع بناء مرنة ومستدامة”، واوضحنا اهمية النهج التعاوني في دعم صناعة المقاولات، مع التركيز علي مراحل تطوير المشاريع، والاستدامة، والابتكار، وتحسين الكفاءة والاستثمار.
وفي هذا المقال سنستكشف من خلال اوراق العمل التي تم طرحها في المؤتمر دور التكنولوجيا في حل التحديات التي تواجه صناعة البناء والتشييد، وسنلقي نظرة عميقة على التطبيقات الحديثة للتكنولوجيا في دعم العقود التعاونية، وتحقيق الاستدامة، وتقليل الآثار البيئية، وتعزيز الكفاءة، وفض النزاعات، كما سيتم توضيح كيفية تنفيذ هذه التقنيات في مشاريع البناء، حيث تناولت اربعة تحديات اولها يتعلق بدور التكنولوجيا في دعم العقود التعاونية والإشراك المبكر للمقاولين، وثانيها يتعلق بتحقيق الاستدامة البيئية في المشاريع، وثالثها تحديات فض النزاعات وتسريع إنهاء المشاريع، والتحدي الرابع خاص بتحسين الكفاءة العامة في قطاع الإنشاءات، كما سوف نستعرض في نهاية المقال التحديات المرتبطة بتبني استخدام التكنولوجيا في قطاع البناء والتشييد.
تمهيد
اصبح استخدام التكنولوجيا في مجال البناء أمرًا حاسمًا في السنوات الأخيرة، حيث تلعب دورًا كبيرًا في تحسين كفاءة صناعة المقاولات، وتعزيز السلامة، من خلال الانظمة الذكية التي تتيح إمكانيات جديدة وتحسين كبير في الإنتاجية والكفاءة، كما تساعد على تبسيط العمليات وتقليل التكاليف، وتعزيز التواصل، وتقليل فترات الإنتاج، مما يؤدي إلى إلى نمو صناعة المقاولات بشكل أسرع، وتوفير المزيد من الوظائف، وفتح مجالات للإبتكار، وتقديم خدمات مختلفة باستخدام التقنيات الجديدة، وإيجاد حلول جديدة تساعد على تنفيذ المشاريع بشكل أكثر تطوراً وسرعة خاصة وأن المشاريع الإنشائية يتم تنفيذها خلال فترات طويلة قد تمتد لسنوات.
ولا يقتصر إسهام تكنولوجيا البناء الحديثة على تحسين الجودة وخفض التكاليف، وتعزيز الاستدامة البيئية، بل تسهم ايضا في حل التحديات التي تواجه قطاع المقاولات، حيث يمكنها التغلب على العديد من المعوقات التي تواجه المقاولين، سواء كانت مرتبطة بالعقود التعاونية، الاستدامة البيئية، أو فض النزاعات، فبفضل الابتكارات الحديثة، أصبح بالإمكان تحسين الكفاءة، وتقليل التكاليف، وضمان الالتزام بالمعايير العالمية.
وفيما يلي شرح موسّع لدور التكنولوجيا في معالجة التحديات المطروحة خلال مؤتمر اتحاد المقاولين العالمي *CICA*::
أولاً: حلول التكنولوجيا في مواجهة تحديات دعم العقود التعاونية والإشراك المبكر للمقاولين
التحديات العامة:
1- ضعف التنسيق بين الأطراف المختلفة.
2- صعوبة مشاركة البيانات بين الفرق.
3- التأخر في اتخاذ القرارات بسبب نقص المعلومات الدقيقة.
الحلول التكنولوجية:
1- أنظمة إدارة المشاريع (Project Management Software) :
توفر منصات مثل *Procore* و*PlanGrid* ادوات تتيح التعاون الفوري بين جميع الأطراف المعنيّة (المالكين، المقاولين، الاستشاريين)، كما تمكن المقاولين من الوصول إلى المعلومات الحديثة عن المشروع، مثل الجداول الزمنية والميزانيات، مما يضمن اتخاذ قرارات سريعة ومدروسة.
2- نمذجة معلومات البناء (BIM – Building Information Modeling) :
هي تقنية حديثة تقوم بدمج جميع البيانات المتعلقة بالمشروع في نموذج رقمي ثلاثي الأبعاد، كما تساعد على تحسين التنسيق بين المقاولين والمهندسين والمصممين، مما يتيح الإشراك المبكر للمقاولين في مراحل التصميم، بجانب انها تقلل من التعديلات أثناء التنفيذ، وبالتالي تخفض التكاليف والمخاطر.
3- أنظمة تحليل البيانات (Data Analytics):
تستخدم لتحليل بيانات المشاريع السابقة، مما يساعد على تحديد المخاطر المحتملة وتطوير خطط عمل أكثر كفاءة.
ثانياً: حلول التكنولوجيا في مواجهة تحديات تحقيق الاستدامة البيئية في المشاريع.
التحديات العامة:
1- ارتفاع التكاليف الأولية للبناء المستدام.
2- نقص المعرفة بالتقنيات والمواد الصديقة للبيئة.
3- صعوبة مراقبة الالتزام بالمعايير البيئية أثناء التنفيذ.
الحلول التكنولوجية:
1- استخدام مواد ذكية ومستدامة:
ويتم ذلك من خلال تطوير مواد بناء مبتكرة مثل الخرسانة ذات الانبعاثات المنخفضة (Low-Carbon Concrete) أو الطلاءات العاكسة للطاقة الحرارية، وايضا تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد (3D Printing) لتقليل الهدر في المواد وزيادة كفاءة البناء.
2- الذكاء الاصطناعي (AI) وإنترنت الأشياء (IoT):
حيث تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي على تحسين استهلاك الطاقة، وإدارة الموارد في المشاريع، علاوة علي استخدام أجهزة استشعار متصلة بالإنترنت (IoT Sensors) تراقب جودة الهواء، استخدام المياه، والانبعاثات الكربونية في مواقع البناء.
3- برامج تقييم الأثر البيئي:
توفر أدوات مثل *Autodesk Insight* القدرة على تقييم تأثير المشاريع على البيئة قبل البدء، مما يساعد على تطوير خطط بناء صديقة للبيئة.
4- تقنيات الطاقة المتجددة:
يمكن استخدام الألواح الشمسية، التوربينات الهوائية الصغيرة، وتقنيات تخزين الطاقة في مواقع البناء لتقليل الاعتماد على الطاقة التقليدية.
ثالثاً: حلول التكنولوجيا في مواجهة تحديات فض النزاعات وتسريع إنهاء المشاريع
التحديات العامة:
1- طول الوقت اللازم لحل النزاعات بين الأطراف.
2- التكلفة العالية لإجراءات التحكيم.
2- نقص الشفافية في جمع الأدلة والمعلومات.
الحلول التكنولوجية:
1- تقنيات البلوك تشين (Blockchain) :
– تقدم تقنية البلوك تشين طريقة آمنة وشفافة لحفظ العقود والمعاملات بين الأطراف، كما تساعد على تتبع جميع التعديلات التي تحدث في العقود، مما يقلل من النزاعات المتعلقة بالمطالبات المالية أو التأخيرات.
2- أنظمة إدارة النزاعات الرقمية:
– توفر منصات رقمية مثل *Dispute Resolution Boards Online* مكانًا لمراجعة النزاعات وحلها بسرعة، كما تتيح للأطراف تقديم الوثائق والأدلة إلكترونيًا، مما يقلل من الوقت اللازم لمراجعتها.
3- الذكاء الاصطناعي لتحليل النزاعات:
– يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل العقود والمراسلات لتحديد النقاط الخلافية واقتراح حلول وسطى، كما يساعد على تقديم تنبؤات حول نتائج النزاعات بناءً على بيانات سابقة، مما يشجع الأطراف على التوصل إلى تسوية أسرع.
4- المؤتمرات الافتراضية وتقنيات التعاون عن بُعد:
يتم استخدام تقنيات مثل *Zoom* و *Microsoft Teams* لعقد جلسات فض النزاعات عن بُعد بين الأطراف، مما يقلل من التكلفة والوقت اللازمين للاجتماعات التقليدية.
رابعاً: حلول التكنولوجيا في مواجهة تحديات تحسين الكفاءة العامة في قطاع الإنشاءات.
التحديات العامة:
1- استمرار الاعتماد على الأساليب التقليدية في بعض الدول.
2- نقص التدريب على استخدام التكنولوجيا المتقدمة.
– 3- ضعف البنية التحتية الرقمية في بعض المناطق.
الحلول التكنولوجية:
1- الواقع الافتراضي والمعزز (VR & AR):
– يمكن استخدام تقنيات الواقع الافتراضي للتدريب على استخدام المعدات الحديثة أو لمحاكاة مشاريع البناء قبل البدء فيها، بجانب ان الواقع المعزز يتيح للمهندسين والمقاولين الاطلاع على التصاميم ثلاثية الأبعاد أثناء تنفيذ المشاريع.
2- الروبوتات والطائرات بدون طيار (Drones):
تقوم روبوتات البناء بالمهام المتكررة والخطيرة مثل الحفر أو تركيب الهياكل المعدنية، كما ان الطائرات بدون طيار تُستخدم لمراقبة تقدم العمل في المواقع الكبيرة، مما يوفر تقارير دقيقة وفورية. الأجهزة الذكية وعامة فان الطائرات بدون طيار تضيف طبقة أخرى من الكفاءة والسلامة إلى مواقع البناء، ، حيث يمكنها توفير صور عالية الدقة للموقع، وتساعد في رصد الأمان وتقدم المشروع.
3- التعلم الآلي (Machine Learning):
– يمكن للتعلم الآلي تحسين التنبؤ بالتكاليف والجداول الزمنية بناءً على بيانات المشاريع السابقة.
التحديات المرتبطة بتبني التكنولوجيا
1- التكلفة الأولية المرتفعة: على الرغم من الفوائد طويلة الأمد، تظل تكلفة شراء الأنظمة التكنولوجية وتدريب العاملين عائقًا أمام الكثير من المقاولين.
2- مقاومة التغيير: بعض الشركات تفضل الالتزام بالطرق التقليدية خوفًا من مخاطر الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة.
3- نقص المهارات: الحاجة الماسة إلى تدريب العاملين على استخدام التقنيات الحديثة لضمان الاستفادة الكاملة منها.
الخلاصة:
تعتبر التكنولوجيا عاملًا محوريًا في التغلب على التحديات التي تواجه قطاع الإنشاءات. من تحسين التعاون بين الأطراف، إلى تعزيز الاستدامة البيئية، و تسريع فض النزاعات، وصولا الي رفع الكفاءة والجودة.
فبالنسبة لتحديات دعم العقود التعاونية وجدنا ان التكنولوجيا واستخدام التقنيات الحديثة تساهم في توفير تحليلات متطورة وأدوات تعاونية تحسن التنسيق بين المقاولين والمهندسين والمصممين، وتساهم في التنسيق بين أفراد الفريق، كما تستخدم هذه الأدوات في تعزيز الاتصال مع العملاء والشركاء، مما يُساعد على تحقيق نتائج أكثر فعالية وكفاءة.
ولان قطاع البناء والتشييد ينتج ما يقرب من 39% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، ويسهم بنسبة 33% في إنتاج النفايات الصلبة، فإن هذه الأرقام تسلط الضوء على الضرورة الملحة لمواجهة تحديات الاستدامة في عمليات البناء، لذا يمكن ان تلعب التكنولوجيا دورًا حيويًا في تعزيز الاستدامة في صناعة البناء والتشييد، وتحسين الأداء البيئي والاقتصادي في هذا القطاع الحيوي، من خلال استخدام التقنيات الحديثة والمواد الذكية وبرامج التقييم البيئي في تقليل الفاقد، وزيادة كفاءة استهلاك الطاقة، وتعزيز إعادة التدوير، وتقليل البصمة الكربونية للمباني، والحد من الأثر البيئي لمشاريع البناء وتحقيق أفضل جودة للأعمال المنجزة ، وتحسين إدارة المشروعات والمواد المستخدمة.
ولانه لا يخلو مشروع انشائي من حدوث صعوبات ومشاكل ينتج عنها نزاعات لا سيما وان اغلب عقود الانشاءات يستغرق تنفيذها وقتا طويلا فقد تزايد الاهتمام بحل المنازعات بشكل فوري حتي لا تعوق تنفيذ المشاريع، ومع تطور التكنولوجيا أصبح لها دورا هاما في تسهيل وتسريع عمليات حل النزاعات، من خلال منصات التحكيم والوساطة عبر الإنترنت وأدوات التحليل البياني، والذكاء الاصطناعي الذي يقدم تحليلات دقيقة وتوقعات حول نتائج النزاعات مما يوفر الوقت والجهد والتكاليف، هذا بجانب تقنية البلوك تشين التي تساهم في توفير شفافية وأمان أكبر في عمليات حل النزاعات
وفي مواجهة تحديات الكفاءة تساهم الابتكارات التكنولوجيا في تحسين جودة البناء بشكل كبير من خلال تحسين التصميم والتخطيط والتحكم الدقيق في إدارة العمليات مما يحد من فرص الأخطاء والعيوب والتكاليف غير المتوقعة، وبالتالي يُعزز جودة المنشآت، بالإضافة إلى ذلك، يساعد استخدام تكنولوجيا البناء الحديثة في خفض تكاليف المشروع، و تحسين كفاءة العمليات و المهام وتوفير الوقت، وتقليل الفاقد والهدر في مواد البناء والموارد، وتحسين معايير السلامة، وخفض التكاليف
كما تساعد نمذجة معلومات البناء في تصميم وتحليل المشاريع بشكل أكثر دقة و تحديد المشكلات المحتملة قبل البدء في البناء الفعلي، مما يقلل من حدوث أخطاء ، ويمكن استخدام الأجهزة الذكية ايضا في الوصول إلى الرسومات والخطط بسهولة، وتنظيم توزيع العمل بطريقة أكثر كفاءة، كما تقدم هذه الأدوات دعمًا في التعامل مع المخاطر، والكشف عن أي تأخيرات، وتنظيم المشاريع بطريقة أكثر فاعلية.
ورغم الفوائد العديدة، فإن اعتماد التكنولوجيا في صناعة البناء يواجه تحديات كثيرة مثل التكلفة العالية للاستثمار في الأجهزة الحديثة، والحاجة إلى تدريب مستمر للمهندسين والمعماريين، وقدرة العمالة على التأقلم مع التقنيات الحديثة، علاوة علي التحديات الأمنية والخصوصية المتعلقة باستخدام التقنيات المتصلة بالإنترنت، بجانب نقص الكفاءات الفنية اللازمة للتعامل مع هذه التقنيات.
ومع ذلك يمكن مواجهة تلك التحديات من خلال التدريب والتطوير المستمر للكوادر الهندسية والعمالة الفنية لرفع مستوى المهارات وتلبية احتياجات السوق المتطورة، حتي يمكن التأقلم بسرعة وكفاءة مع التقنيات الجديدة. .
كذلك يمكن للحكومات والمؤسسات الخاصة ان تلعب دورًا حيويًا في دعم تطوير التكنولوجيا في صناعة المقاولات، من خلال الاستثمار في البحث والتطوير لتحسين العمليات وتقليل التكلفة، وتوفير تدريب وتثقيف للعاملين في المجال، وتشجيع المقاولين على استخدام التكنولوجيا الحديثة في المشاريع، وإطلاق مجموعه من البرامج التثقيفية والمبادرات التعليمية التي تستهدف تطوير وتنمية القدرات التكنولوجية للموظفين والمهندسين لزيادة كفاءة تنفيذ المشروعات الإنشائية ، بالاضافة الي ضرورة وأهمية تطوير القطاع التعليمي الهندسي، والقيام بمبادرات مستمرة مع الكليات الهندسية الحكومية والخاصة في سبيل سد الفجوة بين التكنولوجيا الحديثة واحتياجات سوق العمل في قطاع الإنشاءات.