مقالات
معالم من تاريخ السودان السياسي (1821-2021 (5)
د. عبد الكريم الهاشمي:
نواصل ما إنقطع من سرد لتاريخ فخيم لأمة عظيمة من الظلم أن تتناساه اجيال اليوم بل يعد الجهل به ضرب من الجحود والعقوق.
يقول الشاعر العراقي أحمد مطر:
قد أنسوكم كل التاريخ وكل القيم العلوية..
أسفي أن تخرج أجيال لا تفهم معنى الحرية..
لا تملك سيفا أو قلما لا تحمل فكراً وهوية.
1
يعتبر استيلاء الجيش على السلطة في تاريخ 17 نوفمبر 1958م بقيادة الفريق إبراهيم بغض الطرف عن ان الإستيلاء كان إنقلابا قاده الجيش ام تسليما للسلطة للجيش قام به رئيس وزراء الحكومة الديمقراطية عبد الله خليل إلا أن الخطوة مثلت أول نشاط عسكري يستهدف تقويض النظام الديمقراطي التعددي الحزبي في السودان كما أن نجاح حركة 17 نوفمبر قاد إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية التي اصبحت ظاهرة في مسيرة الحكم في السودان منذ إستقلاله في العام 1956م فما من حكومة ديمقرطية إلا وتم تقويضها بإنقلاب عسكري وما من إنقلاب عسكري إلا وذهب بإنتفاضة شعبية وهكذا توالت الإنقلابات تباعا حيث بلغت المحاولات الإنقلابية حوالي 17 محاولة في الفترة بين 1956 – 2021م نجح منها القليل وفشل الكثير. بعد الإستيلاء على السلطة شكل الفريق ابراهيم عبود المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسته وعضوية عشرة آخرين من ضباط القوات المسلحة
لإدارة شؤون البلاد كما شكل حكومة من عسكر وتكنوقراط لإضفاء نوع من الشرعية على الحكم العسكري الذي عارضته معظم القطاعات السياسية والحزبية. بدأت الحكومة التصدي للمشاكل الأساسية المتمثلة في صناعة الدستور وإحلال السلام في جنوب السودان وإحداث إختراق في قضايا التنمية وإصلاح الوضع الإقتصادي المتأزم ومعالجة الارتباك الذي كان يسيطر على إدارة الحكم في البلاد.
2
تعتبر قضية الفشل في إعداد دستور دائم للبلاد بعد الإستقلال من اهم الدوافع التي قادت الى إنقلاب نوفمبر 1958م حيث كان من المامول ان تضع حكومة عبود مسألة إعداد الدستور في سلم أولوياتها حتى تحسم الجدل والخلاف السياسي الذي دب في صفوف الإحزاب قبل 17 نوفمبر 1958 بسبب عدم إهتمام الحكومات الحزبية بامر الدستور وهذا ما لم يحدث إذ رأت حكومة الفريق عبود أن تسلك مساكا مغايرا لحل قضية الدستور وذلك عبر الاهتمام بالحكم المحلي من خلال إرساء قواعد الديمقراطية على المستوى المحلي ونشر ثقافتها بين الناس على مستوى المدن والأرياف وإنفاذا لهذه الفكرة تم في أغسطس 1959م تشكيل لجنة وزارية لدراسة وإعداد نظام للحكم المحلي كخطوة أولى نحو صياغة نظام دستوري مناسب للسودان وبناء على توصية تلك الجنة صدرت ثلاث قوانين للحكم المحلي وتم تأجيل صياغة دستور دائم للبلاد ربما لتجنب نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يترأسه الفريق عبود إلى برلمان منتخب وبهذا يكون قد إستمر نفس البطء والمماطلة التي كانت سببا من الاسباب التي أدت إلى حدوث إنقلاب الفريق إبراهيم عبود. مما يؤسف له أن السودان مازال هائما على وجهه باحثا عن دستور دائم وذلك منذ 66 عاما هي عمر إستقلاله. أعلنت الحكومة بعد فترة قصيرة من السيطرة على السلطة نيتها في إدخال تغييرات دستورية كمقدمة لإنشاء حكومة برلمانية وإنفاذا لذلك أصدرت في عام 1960م ما أسمته قانون إدارة المديريات ثم الحقته في عام 1962م بتعديل لقانون الحكم المحلي ثم أصدرت في ذات العام قانون المجلس المركزي حيث نصت هذه القوانين على اختيار أعضاء المجالس المحلية بالانتخاب ثم يتم من بينهم انتخاب أعضاء مجالس المديريات والتي تنتخب بدورها أعضاء المجلس المركزي. في “إبريل ومايو” من العام 1963م أجريت الإنتخابات تأسيسا على هذه القوانين ووفقا لبعض الشروط التي تنظم خوض الانتخابات ومنها أن يكون المرشح سودانيا ذكرا لا يقل عمره عن 25 سنة وأن يكون قد دفع ما عليه من ضرائب وعوائد مستحقة في العام السابق أو أن يكون مزارعا مسجلا في مشروع زراعي في المنطقة الانتخابية المعنية أو مزارعا حرا “يعمل في مجال الزراعة المطرية”. كانت الحكومة تأمل في تسجيل نسب عالية من الناخبين ومن ثم الإدلاء بأصواتهم مما يعد دليلا على ثقة المواطنين فيها إلا أن النتائج جاءت معاكسة لرغبة الحكومة حيث قاطع المواطنون الانتخابات. ذهب كثير من المراقبين وقتذاك إلى أن حكومة الفريق عبود كانت تحاكي بقوانينها الرامية للتحول الديمقراطي ما اتخذته حكومة الباكستان من إجراءات لإقامة ما يسمى بالديمقراطية الأساسية أو القاعدية basic democracy.
3
من اكبر التحديات التي ورثتها حكومة الفريق عبود الأوضاع الامنية المتردية في جنوب السودان بسبب الحرب الأهلية التي إندلعت قبيل الاستقلال 1955م حيث ظل التوتر والحرب هي السمة المميزة للعلاقة بين جنوب السودان وحكوماته المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى إنفصال الجنوب في العام 2011م بغض النظر عن ما إذا كانت الحكومات ديمقراطية أم شمولية إذ كان لكل حكومة إستراتيجيتها التي تميزها في التعاطي مع قضية الحرب والسلام. اعتمدت حكومة إبراهيم عبود الحل العسكري وهو ذات النهج الذي إنتهجته الحكومة التي سبقتها إلا أنها لم تغفل الحلول السياسية حيث عملت على إشراك بعض السياسيين الجنوبيين في مناصب وزارية. تطور النشاط السياسي والعسكري في الجنوب حيث تأسس في عام 1963 إبان فترة حكومة الفريق عبود الاتحاد الوطني الأفريقي للمناطق المقفولة على أيدي مجموعة من الساسة الجنوبيين ابرزهم جوزيف لاقو ووليام دينق وغيرهما ويعتبر هذا الكيان أول هيئة سياسية جنوبية قامت بالترويج لقضية جنوب السودان إقليميا ودوليا وكانوا يطرحون الاتحاد الفيدرالي كحل للمشكلة وفي حالة رفض الشمال لهذا المقترح سيكون الإنفصال عن الشمال هو الخيار الراجح. لم تتم الاستجابة لمطلب الجنوبيين في الحكم الفدرالي الأمر الذي ساهم في استمرار التصعيد من الجانبين مما دفع الجنوبيين إلى تأسيس جيش “الأرض والحرية” في سبتمبر 1963 عرف لاحقا بحركة “الأنيانيا” ساهم هذا الجيش في تأجيج الصراع منتهجة اسلوب حرب العصابات في المديريات الجنوبية الثلاث أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية وهذا أدى إلى تدهور الاوضاع الأمنية في الجنوب. سعت حكومة عبود لقطع الدعم الأجنبي عن المتمردين من خلال وقف أنشطة الإرساليات التبشيرية المسيحية التي تم اتهامها بتأجيج النزاع وتغذية الصراع من خلال الدعم وعمليات التبشير والتنصير في الجنوب ومن المعلوم بالضرورة أن الاستعمار قد لعب دورا بارزا في نشوء الأزمة في جنوب السودان. يتهم خصوم الفريق عبود خاصة الجنوبيين بأنه اعتمد لحل مشكلة الجنوب على الأسلمة والتعريب القسريين وذلك من خلال إنشاء مدارس ومعاهد إسلامية في الجنوب وإصدار قانون 1960 الذي جعل من يوم الجمعة عطلة أسبوعية في الجنوب بعد أن كانت العطلة الرسمية هناك الأحد كما إصدار قانون الجمعيات التبشيرية الذي يحد من نشاطها.
4
ذهب كثير من الكتاب إلى أن الفريق ابراهيم عبود يمثل رائد التنمية في السودان حيث شهد السودان في عهده اول خطوات التنمية في البلاد حيث شاد وأرسى لكبريات مشروعات البنى التحتية في السودان مثل إنشاء خزان الروصيرص وخزان خشم القربة ومصنع سكر الجنيد وسكر حلفا وسكر ملوط وامتداد مشروع المناقل الزراعي ومشاريع الزراعة الآلية في الدالي والمزموم وأقدي وعدد من مصانع الفاكهة في واو ومصنع الالبان في بابنوسة ومصنع تجفيف البصل بكسلا وصناعة كرتون العبئة في اروما ومصنع نسيج انزارا ومصنع تعليب كريمة كما مد خط السكة حديد جنوبا حتى واو وغربا حتى نيالا وادخال قاطرات الديزل بدلا من البخار كما أنشأ الخطوط الجوية السودانبة والخطوط البحرية السودانية كذلك أنشأ بنك السودان المركزي والبنوك المتخصصة “التجاري، الزراعي، الصناعي، العقاري” كما بدأ في عهده مشروع كهرباء سنار وكهرباء بري كذلك في عهده بدأ بث تلفزيون السودان والمسرح القومي كما أشاد كبري شمبات وأضاف اجنحة جديدة لكبري النيل الأبيض وسفلت طريق مدني الخرطوم كما شيد مصنع النسيج السوداني وشركة الخرطوم للغزل والنسيج كذلك أنشأ مصنع صك العملة ومناشير الاخشاب في جنوب السودان كما إهتم بالتعليم الفني والتدريب المهني فأنشأ العديد من المدارس الصناعية كذلك حدث تطور في الخدمات الصحية بإنشاء مصانع الدواء والمستشفيات الكبيرة والريفية. إن الطفرة التي حدثت في الصناعات في عهد عبود لم تقتصر على القطاع العام بل وجد القطاع الخاص دعما من الحكومة بمنحه امتيازات كثيرة قادت لتوسع ملحوظ في الصناعات سيما التي تعتمد على المواد الخام المحلية مثل صناعة الزيوت والنسيج والصابون مما حقق وفرة في هذه السلع وباسعار معقولة.
تم في عهد حكومة الفريق عبود إبرام اتفاق جديدة مع مصر لتقاسم مياه النيل رفعت بموجبه حصة السودان إلى 11 مليار متر مكعب من المياه وذلك في إطار صفقة تم بموجبها بناء السد العالي والسماح بتدفق مياه بحيرة السد إلى داخل حدود السودان مما ادى لإغراق مدينة حلفا القديمة. تمددت العلاقات الخارجية في عهد الفريق عبود شرقا وغربا مع مراعاة مصالح البلاد العليا وقد إضطلعت حكومة الرئيس عبود بالاعتراف بجمهورية الصين الشعبية كدولة مستقلة لها كامل السيادة في عام 1959.
5
اشتد التضييق على العمل الحزبي والسياسي في عهد الرئيس عبود وقد حلت الأحزاب وصودرت دورها كما اتخذ الفريق عبود سياسات فاقمت من مشكلة جنوب السودان وفي ظل هذا المناخ من التضييق زاد الاحتقان الشعبي ضد الحكومة وساءت الاوضاع المتردية في جنوب السودان مما اجج السخط الشعبي. استغلت الأحزاب السياسية تدهور الاوضاع فجاهرت بمعارضتها لسياسات حكومة عبود من خلال تصريحات زعمائها وندوات كوادرها خاصة في الجامعات والمعاهد العليا فاندلعت في 21 أكتوبر 1964 إنتفاضة شعبية عرفت لاحقا بثورة اكتوبر اعلن الفريق عبود على إثرها تنحيه عن السلطة استجابة لرغبة الجماهير على ان تتولى إدارة البلاد حكومة انتقالية تكونها جبهة الهيئات وبالفعل تشكلت الحكومة الانتقالية برئاسة سر الختم الخليفة. إنتهت فترة حكم الفريق عبود والتي دامت لستة سنوات “نوفمبر 1958- اكتوبر1964م”.
قال بعض القادة العسكريين والسياسيين كلمات في حق الفريق عبود حفظها التاريخ حيث قال الفريق الفاتح بشارة “كان إنسانا بمعنى الكلمة وكان هادئا غاية الهدوء لكنه يعرف متى يتشدد ومتى يلين” وقال السيد سيد أحمد الحسين احد قادة الحزب الاتحادي الديمقراطي “رغم انه حكم عسكري إلا أنه كان حكم عقلاء حكم شرفاء اياديهم نظيفة لم يفسدوا إطلاقا وما خرجوا عن المألوف” كما قال الكاتب محجوب محمد صالح “إن عبود من الشخصيات التي لم تغيرها السلطة دخلها كرجل بسيط وعسكري مهني وضابط منضبط عاش بنفس صفاته ابان فترة حكمه لم يحاول خطف الأضواء ولم يفرض نفسه أو يدعي شيئا عاش حياة بسيطة حتى وفاته” وقال الكاتب بشير محمد سعيد “إحترم الخدمة المدنية لذلك كان التشريد والفصل في عهده اقل ما يمكن بالنسبة لكل العهود لم يتدخل مطلقا في الخدمة المدنية او في القضاء فظل القضاء محافظا على استقلاله وعلى دوره القيادي”. أما دكتور منصور خالد فقد قال ” كان قراره بالتنحي عن الحكم هو قرار الرجل السوداني الكبير الذي يدرك معاني التراحم فقد أبى أن يكون البقاء على أجداث الرجال”. هناك رواية متداولة بين الناس أن الفريق عبود بعد ان تنحى عن الحكم جاء يوما بسيارته للتسوق بأحد أسواق الخرطوم فما كان من باعة الخضار واللحمة والفواكه إلا أن تسابقوا اليه يحمل كل منهم ما استطاع وفي دقائق امتلأت عربته بما لذ وطاب بالمجان وصار رواد السوق يهتفون “ضيعناك وضعنا وراك يا عبود”.
سنتناول في المقال القادم احداث ثورة اكتوبر 1964 التي تعتبر أول ثورة شعبية في إفريقيا والعالم العربي.
Krimhashimi5@gmail.com
0912677147