بقلم/ دكتور عبدالوهاب همت:
جمع بين عدة جماليات، جمال المظهر والجوهر وخفة الروح والدعابة والعقل الحاضر ، والسخرية اللاذعة المتواريه خلف النكته، الضحكة الدواية المجلجله التي تخرج من الأعماق بعفويه الأطفال . فطن ولماح يوزع بصره بين الحضور كما يسري صوته الشجي الأخاذ.
غني وتغنى للحب والحب العذري ( وبي ريدو عودني السهر قابلتوا مرة وماظهر… الصد شقى والود شفى وميل ميل عليا يابلال عليّ)
يميل ويتمايل ويجعل سامعيه ومشاهديه يتمايلون معه ومع علي المساح وعندها لم يكن للميل حدود فالقلوب كانت نظيفة والأنفس كانت عفيفه إلى أن حل بالسودان دمار ( جماعة الميل أربعين )ويا( غصن الرياض المايد
وما أظن عن هواك لو أموت ماحايد
سهران ليلي طال والعينين صحت ماهجايد
تعبان قصدي ليمك وانت ناضر وزايد
في الجيل لي جمالك سائد
عينيك ليك جنود وانت ليهن قايد
يا النافر جفيتني بنظرة لي ماعايد
شوفتك زي هلال العيد وبيها أعايد
ياخلاصة الحواري المن جنان وخوالد
حسنك ليك يدوم لاام تلد لاوالد
رافل في ظلال المجد التليد والتالد
يا اللابس العفاف حيلة وعقود وقلايد
عانيت في ليالي هواك ظروف واحايد
مشكلة بين هواي وجفاك وانت محايد
بس ماذنبي غير صغت النشيد ونشايد
في مدحك بنيت قصر الرشيد الشايد
انا وحبك ترعرعنا ونشأنا ندايد
من زمناً قبيل ما ايام قلال وعدايد
ماخلص القديم تبين مصايبو جدايد
حن ياحبيب كفاي مر العذاب وشدايد.
الشعر الذي يأخذ بألالباب والقلوب واللحن الذي يجعل كلٌ الكائنات تتراقص والويل لمن لا تهزه الكلمات ولا تدغدغ مشاعره الموسيقى الساريه في الجسد مسار الدم في الاوردة والشرايين.
أدى الغناء بشكل مسرحي راقص ماجعل الحضور يتمايل له في الغناء الجماعي والفردي والتصفيق الحار المصاحب لذلك دليل الاعجاب والانجذاب والغوص في الاعماق ويصغي له في الكلام وتوقع المفاجآت نكته أو رقصه يصدرها في وقتها تماماً. فمن اختار بديع الشعر وفصيحه مُعقده وسهله فصيحاً أو عامياً فصل له وبدقه ألحاناً تجعل المتلقي كل يأخذ مقاسه.
استقر في دواخل أفئدة وأذهان مستمعيه ومشاهديه من أوسع الابواب.
جاء والده من جبال النوبه وطاب له المقام في الجزيرة مدني والتي كانت انئذٍ إنغرست في اركانها الموسيقى والكلمه والغناء وعمالقته، حيث كان يعمل في الحقل الطبي ، ومن مدني نُقل زايد جبريل الى مدينة ملكال ، وهناك تعلق قلب زايد بالشابه نان دينق من حسناوات قبيلة الشلك ذات الجذور الضاربة ولها ارث ضخم من العادات والتقاليد من الموسيقى والرقص ، وهو جزء من تراثها في الحصاد والمناسبات المختلفة والاعياد بأنواعها الميلاد والزواج والوفيات.
زواج زايد جبريل القادم من العباسية تقلي بفتاة الجنوب الشامخة أثمر في العام ١٩٣٥ وفي حي الملكيه في ملكال عن ميلاد الفتى الممتلئ بالموسيقى والرقص بايقاعاته المختلفة ، وهذا امر متوقع في ظروف كهذه.
يتردد بأن موهبة هذا الطفل بدأت تظهر في سنوات دراسته الاولى وفقاً لرواية متداولة عن مدير مدرسته الاستاذ صادق عبدالرحمن والذي رعاه وأولاه إهتماماً خاصاً.
وما أن قوي عوده الا وان قرر الفتي الهجره نحو الخرطوم وهناك سكن الاحياء الشعبيه ديوم الخرطوم وديوم بحري والعباسية والموردة، ومن يسكن في مثل هذه الاحياء يجد الاجواء مهيئة للابداع والمبدعين فهي أحياء التنوع السوداني الحقيقي.
في العام ١٩٥٧ تمت اجازة صوته وهي الفترة التي ظهر فيها العمالقه وردي، كابلي ، الجابري وصلاح مصطفى، وهذه الشموس الفنيه لايسطع بينها الا من يوازيهم إشراقاً وسطوعاً.
غنى للكبار جعفر فضل المولى، عوض جبريل، خليفة الصادق وبشير محسن .
هناك معلومة غير مؤكدة تقول أن نجمه سطع أكثر عند إعلان اضراب الفنانيين في العام ١٩٥١ ، وان اشهر من لم يدخلوا الاضراب من الفنانيين هم محجوب عثمان وعبدالحميد يوسف ومهله العبادية وفاطمة الحاج ورمضان حسن ، ورد ذلك في السفر الضخم لمعاوية حسن يسن من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان الجزء الثاني ص ٣٤٧.
إنسانية متدفقة لرمضان زايد أوردها لي الدكتور الطاهر الفكي وهو فنان تعرض للسرقة والإختطاف من الطب والسياسة وهو القيادي البارز في حركة العدل والمساواة يقول ( أنهم كانوا طلاباً في كلية الطب تخرجوا في العام ١٩٧٨ وكانت دفعتهم تضم ١٦٣ طالباً و١٩ طالبة ، نُظمت لهم رحله في العام ١٩٧٢ ووقف وراء ذلك طيب الذكر الفنان الدكتور عوض دكام اللطيف الظريف صاحب القفشات ، وجمع مابين دكام ورمضان زايد أنهما ينتميان الى جبال النوبه والشخصيتين يجمع بينهما الكثير من نبل المواقف الانسانيه وخفة الروح. يقول كانت الرحله في حدائق السقاي الخرطوم بحري ، تم نقلنا بالبصات
وحتى لحظة وصولنا الى داخل الحديقة لم نكن نعرف من هو المغني المصاحب وكانت المفاجأة رمضان زايد بشحمه ولحمه ويالها من مفاجأة حقيقية، ظهر أمامنا العملاق متأنقاً متألقاً بطوله الفارع مرتدياً زياً أفريقياً غاية في الروعة والجمال وببديهته الحاضره كان مفتتح الحفل ( يابنات بحري قالوا بتحبوا نحن من بحري
ونحن ما اغراب ويكفينا مالقينا عذاب.
وغنى لنا ( عينيّ ياسبب التعب شفت الجمال شفت العجب
الحب وفي قلوبنا إنكتب
ليه ياليالي المعرفه يتبدل الود بالجفاء
بي ريدو عودني السهر قابلتوا مرة وماظهر
خلاني اكتر من شهر
ذكراه عندي معززه.
وواصل الاغنيه تليها الاغنيه وكلما تغنى انفرجت الاسارير وإستبد بنا الطرب ، وهو يغني ويرقص ويراقص والناس والاشجار تتمايل غنى رمضان زايد كما لم يغني من قبل وإستجاب لكل الطلبات . وكانت المفاجأة التي لم تكن متوقعه أن يعلن رمضان زايد الفنان الانسان أنه متنازل وبشكل كامل عن عائد هذا الحفل في صالح اتحاد طلاب جامعة الخرطوم موقف رائع من فنان أروع.) إنتهت شهادة دكتور الطاهر الفكي.
رمضان زايد غنى السهل الممتنع ، كالشيخ سيرو وبنات بحري ودموعنا الفرقتنا وبالنار حرقنا جمعتنا الليالي ورجعت فرقتنا ويابلال عليّ بلقاك في جهنميه. واشتاق في صمتي واحب في همسي واعود ان عُدتي من معبدي القدسي.
عند قدوم رمضان زايد من ملكال الى الخرطوم وقبل وفاتها كانت تغني له والدته و كانت له شقيقه واحدة . في الخرطوم بدأ في سماع الكاشف والتاج مصطفى وقد تأثر بالاخير وكان يتغنى له ب ( ببهجة حياتي وصالك ساعته يأتي) من كلمات اسماعيل خورشيد.
وعن اغنية اغنية غصن الرياض المائد والتي تنازل له ابوداؤود بشكل كامل عنها يقول الرواة ان الاخير كان عائداً لمنزله ليلاً وعندما إسترق السمع إلتقط إتجاه مكان الحفل الذي كان يغني فيه رمضان زايد في بحري أعجب أيما إعجاب بأدائه الرائع وقرر لحظتها اهداء هذه الاغنيه له ومن لحظتها لم يرددها مرة أخرى.
تعمق رمضان زايد جعله يختار عذب الكلمات وصادف ان عثر على قصيدة مبارك المغربي الشاعر الفحيم ليتني زهر والتي تقول:
أنا ليتني زهر في خدك الزاهي
أنا ليتني طير في روضه لاهي
أنا ليتني نهر تنساب أمواجي
يحلو تلاقينا من غير أفكاري
ويرف وادينا شوقا لمزماري
***
أنا ليتني عودُ في صدرك الحاني
دنياي تغريدُ من عذب ألحاني
والفن محبوب في قلب فنانِ
من خفقة القلب تنساق أوتاري
بالشعر والحب كالشهد والنار
***
أنا ليتني أنت
في عالم الحس
أشتاق في صمتي وأحب في همسي
وأعود إن عدتي الي معبدي القدسي
حيث الهوى السامي يسمو بأفكاري
وتطيب أيامي من نبع إيثاري.
قوةٌ في التعبير توازيها قوة في اللحن تأخذ بشغاف قلوب العشاق وشرايين ( العشاق والمحبين والاسرى) أو كما يقول الشاعر العظيم علي عبدالقيوم.
حركته الضاجه بالحيويه والصخب في الاداء المموسق جعلته ينضم الى الثلاثي الراقص الذي كسر رتابة الاداء غير الحركي في المسرح اثناء الغناء وقد تفرد بذلك كلٌ من خضر بشير وابراهيم عوض وسيد خليفه وبعد أن إكتمل المربع بإنضمام رمضان زايد لهم كان أن بزهم جميعاً ، وهم الذين نجحوا في نقل جمود وثبات المغنين السودانيين الى مغردين وراقصين في نفس الوقت.
حفلات رمضان كانت ملتقيات لمحبي الغناء والرقص معاً ، فالطرب كان يتدفق من كل خطواته التي يخطوها .
عفويته وصدقه وحبه للناس وحب الناس له ساعده ذلك في خلق صداقات حقيقية له في اوساط كل المجتمعات .
كان كلما ذهب الى مدينة مدني والتي يكن لها محبةً خاصة يغني فيها كما لم يغني من قبل ومع (خليك مع الزمن ) و ( ده وقتوا) يكون الترميز والاشارات.
يقال ان إمام الضلاليين نميري بعد بيعة الكيزان الشهيرة له في سبتمبر ١٩٨٣ حضر حفلاً في مسرح الجزيرة بودمدني ، وفي لحظة معينه وعندما لم يذهب الامام الضال نحو المسرح مُبشراً تعبيراً عن سعادته بالغناء ، أن فاجأه رمضان زايد ( خليك مع الزمن ياريس) وعندها إنفعل إمام الزيف ليصيح ( نزلوه نزلوه) وعندها إنفجر رمضان زايد ضاحكاً ( ده وقتوا)؟ وبلغة الفن فهو (دويتو ).
والرسالة كانت واضحة لان مابينهما كان الكثير من الغناء والطرب و( حاجات تانيه حامياني ) ، وغادر رمضان زايد المسرح مباشرةً وفي الليله نفسها أرسل له الإمام المزور الرُسُل من أجل شراء صمته.
رمضان زايد غنى الكثير من الاغنيات التي لم تجد حظها في الانتشار منها
أحلام:
احلم دائماً في منامي يغمرني حنان
أحلم بالماضي وليالي زمان
احلم بالشوق عادتوا اياموا
على وتر القلب يعزف أنغاموا
جيت الدنيا عشان عيونك
خلوني اهيم اصبح مجنونك.
واغنية زي مابحبك:
زي مابحبك وانت قول بتحبني
وزي مابحبك ليه ماخيرتني
زي مابحبك والفؤاد مشغول عليك
لكن لحبك خلي روحي تغني ليك
خاف الله ربك بعدما عذبتني.
وغنى للسيرة ( الشيخ سيرو)
وغنى ذكريات ماضيك ، وصادق ونفور ، وهويتو ليه.
في الذكرى التاسعة والثلاثين لرحيل رمضان زايد ملك التم تم والذي ملأ أرواح معجبيه بالفرح والمرح اتمنى ان يحيي محبوه ذكراه بالشكل اللائق لفنان يستحق . وإن لم تهتم الدولة السودانية منذ الاستقلال بالابداع والمبدعين ، حريٌ بهم ان يحتفوا فيما بينهم بذكرى الرعيل الاول فكلية الدراما والمسرح لماذا تطلق اسماء المبدعين على قاعات الدرس والمسارح وتسمي بعض الفرق بأسماء الفنانيين والعازفين والشعراء والرسامين وكتاب القصة ، متى ستكون هناك قاعه او استديو بإسم عشه الفلاتيه وعلي المك ومحمدية وخليل فرح واحمد مرجان وكرومة وابو صلاح وعبدالمجيد بطران وعلي المساح ومسرح الكاشف وخالد ابو الروس والفكي عبدالرحمن وليلى المغربي ومحمد عثمان عبدالرحيم والفيتوري وابراهيم موسى أبا وفائزة عمسيب وصالح الضي وقريب محمد راجع وقلبي على وطني.
فلتتوقف هذه الحرب اللعينه ونعود لسودان التنوع والمحبه والتسامح سودان ماقبل ٣٠ يونيو ١٩٨٩.
ونعود أحباب زي ماكنا .