الجميل الفاضل:
تضيع الدولة – أي دولة – عندما يؤتمن عليها، من لا يؤمن بها نوعا وأصلا.
فالدولة الحديثة في عصرنا الحاضر تقوم علي مبدأ المواطنة، كأساس وحيد للحقوق والواجبات، من غير تمييز يخل بتوازنات هذه الحقوق والواجبات بين المكونات الداخلية للدولة، بلا زيادة ظالمة تذهب دون مبرر لحساب طرف، وبلا نقصان مجحف يغمط حق طرف آخر.
لكن في العموم، ومنذ أن ركّب الشيخ الترابي منظمته عالمية الطابع، على فرع الدولة الوطنية في السودان، نشأ هنا تناقض جوهري بين عقل الدولة التقليدي البيروقراطي، وعقل الإسلاميين الراديكالي الجامح، الذي تقحم كافة قلاع هذه الدولة العتيدة، دون أن يدرك الشيخ ولا تلامذته، أنهم فاقدون بالفعل لخاصية وشفرة الإتصال بجهاز الدولة الكلاسيكي الموروث، الذي لم تتمكن شاشة العقل الإخواني، الإستحوازي، التمكيني، المندفع باديء ذي بدء، من قراءة عناصره ومكوناته الدقيقة، المثبته على أقراص تلبي فقط المطلوبات والشروط التكوينية لدولة إنبني بيتها ونظامها، علي قواعد المواطنة وموجباتها فحسب.
ومنذ ذلك التاريخ، تاريخ إختطاف “الجبهة القومية الإسلامية” للدولة بشقيها المدني والعسكري، نشأ ذلك التناقض الفاضح الذي عبر عنه سؤال الراحل الطيب صالح: “لماذا يحبونه، وكأنهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنهم مسخّرون لخرابه؟”.
فالحركة الإسلامية شأنها شأن سائر حركات الإسلام السياسي في العالم، تتملكها شهوة عارمة لتغيير هذا العالم برمته، علي نسق منظورها الذي تريد.
بل أن هذا هو ما يفسر لماذا يكره الحركيون الإسلاميون نوع هذه الأوطان التي تستحق عندهم العقاب أحيانا، لو أنها تمردت أو ثارت علي مبدأ خدمة أهدافهم المقدسة، تلك الأهداف التي ليس من بين أولوياتها، واجب الحفاظ علي تلك الأقطار والذود عنها، حماية لترابها الوطني، أو تلبية لرغبات أهلها في الحصول علي كل ما يصون كرامتهم الإنسانية، ويحقق لهم غاية العيش الكريم، بحرية، وسلام، وعدالة.
وبالمقابل يحب هؤلاء الإخوانيون أوطاناً تذعن تحت أيديهم، لا ترفض أو تقاوم فهمهم الإخواني البائس للدين، أوطانا تصلح لأداء دور المنصات، تقوم فقط بمهام الرافعات، التي تهيء لهذه الجماعة وفكرتها قواعد الإنطلاق نحو أهدافها المناقضة لمصالح هذه الأوطان بالضرورة، إذ هي في الحقيقة أهداف عالية الكلفة والثمن، ينبغي أن تدفع فاتورتها الباهظة بالكامل، شعوب هذه الأوطان برضاء تام إدراكا لعظم وقداسة المهمة التي تقوم بها هذه الجماعة، دون إبداء مظاهر رفض أو حتي تبرم.
وبطبيعة الحال، فإن نوع هذه الأهداف الغامضة، تظل أهدافا سرمدية لا نهائية، لا تعرف حدودا قاطعة ولا نهايات واضحة تقف عندها.
بيد أن المؤكد هو أنها تنطلق نحو غاياتها المبهمة تلك، من ذات نقطة عدم الإعتراف بمبررات وجود هذه الأقطار والأوطان نفسها، التي تسخرها في الواقع لعكس الأغراض التي نشأت لأجلها ككيانات، بل ربما لتقويض ونقض الأسس التي أوجدتها علي الأرض كدول، وقامت عليها في النهاية كأوطان.
-ونواصل-