الجميل الفاضل:
يبدو أن السودان الذي كان يفضل أن يراه، وزير الأمن الداخلي الاسرائيلي السابق آفي ديختر، والذي تمناه قبل نحو (16) عام تقريبا، في حديث بمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي.
قد بات هو اليوم أقرب للواقع، من مجرد رغبات وأمنيات، أو سيناريوهات لمؤامرات تحاك بمطابخ المخابرات، فالسودان الضعيف، الهش، المجزأ، أضحي بكل أسف حقيقة، لا ينتطح حولها عنزان.
بل أن كل ما كانت تعمل له أو تنتظره اسرائيل منا، قد تحقق في الواقع ربما بأيدينا قبل أيدي سوانا.
المهم فاسرائيل لم تخف نواياها الصريحة تجاه السودان، من قبل ان يقول رجل مخابراتها ديختر في العام (2008): “إن السودان بموارده ومساحته الشاسعة من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول مثل مصر والعراق والسعودية”.
وبناء عليه، خلص ديختر إلي أنه:
“لا يجب أن يسمح لهذا البلد بأن يُصبح قوةً مضافةً إلى قوة العرب.
وأنه لا بدَّ من العمل على إضعافه وإنتزاع المبادرة منه لمنع بناء دولة قوية موحدة فيه.
وأن بقاء سودان ضعيف ومجزأ وهشّ أفضل من سودان قوي وموحّد وفاعل”.
تري هل اسرائيل وحدها هي من فعلت بنا ذلك؟.
علي أية حال هو سؤال لا ينبغي أن يجيب عليه هواة نظرية المؤامرة، بل أن أفضل إجابة في ظني علي هذا السؤال قد قال بها الراحل الدكتور منصور خالد، الذي يري أن فشل السودانيين في بناء دولة قوية موحدة، يعود بالدرجة الأولي إلي عوامل داخلية بحته، ستقود السودان لا محالة الي ما هو أدهي وأمر، الي ذوبان الدولة، ثم الي هاوية السقوط، وكأن منصور يقرأ كل ما جري لاحقا من كتاب كان مفتوحا أمامه، والي أن يقول: “عندما يقع الفشل مرة أولي قد يكون أمراً عَرَضياً.
وعندما يتكرر مرة ثانية قد يكون مصادفة.
ولكن عندما يتكرر كر الليل والنهار، يصبح ميلاً وجنوحاً نحو الفشل.
هذه هي العوامل التي أكسبت نخبتنا السياسية قدرة فائقة علي تحويل كبريات الأماني إلى ما هو أدني قيمة من التـُفاف، عندما وآتتها الظروف إلى التمكن من السلطة.
تلك هي الحالة التي تستلزم وضع المريض في أريكة الطبيب النفساني، لآسيما بعد أن وضح لكل ذي عينين أن أي فشل جديد لن يقود فقط إلى فشل أكبر، بل إلى ما هو أدهي وأمر.
فإن وضعنا نصب أعيننا تجربة إنفصال الجنـــوب، وإستعار الحروب في الغرب والوسط، لأدركنا أن تراكم الفشل سيقود حتماً إلى واحد من شيئين: الأول هو الحساسية من النجاح.
والثاني هو ذوبان الدولــة.
كلا الدائين سيسيران بنا لا محالة في طريق طُراد نحو الهاوية”.
ولكي نضع نصب أعيننا تجربة إنفصال الجنوب، حتي ولو من باب الإعتبار، كما نصح الراحل منصور خالد، فإننا يجب أن نعلم لماذا وكيف، إنفصل الجنوب؟ قبل أن يقودنا الفشل التراكمي الذي أفضي بنا الي الحرب، وإلي مرحلة ما يشبه ذوبان الدولة، ونحن نمضي هكذا سراعا في طريق طراد الي الهاوية، التي لا نعلم كم تستغرق الرحلة التي بدأناها في الطريق الي قاعها.
ان هذا الفشل المركب، لم يك أمرا عرضيا، كما أنه لم يأت بمحض صدفة.
إن قصة واقعية مخزية ومحزنة في ذات الوقت، يرويها هنا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تلخص لنا مدي إستهانة هؤلاء “الإخوان” الذين حكمونا لأكثر من ثلاثين عاما بتراب الأوطان، وانهم كيف كانوا يقايضون الدول والحكومات علي ستر جرائمهم بمبدأ “الأرض مقابل الرقاب؟!”، لكن تري هل “بيع الأوطان ينجي الأبدان؟!”.
تقول القصة: حاول النظام الإخواني البائد أن ينجو بعرابيه العسكري والمدني، عمر البشير، وعلي عثمان محمد طه، من دفع أثمان ما اقترفت يديهما في غضون سنوات حلفهما غير المقدس الذي بددا خلاله الكثير من مقدرات البلاد.
ولعل صفقتين كبيرتين أورثتا السودان حالاً كارثياً امتد بآثاره السلبية إلى يومنا هذا، نذكّر بهما هنا للتعرف على حقيقة أن المنهج الإخواني قابل إلى الآن للمساومة بأغلي موارد ومقدرات البلاد، لإفلات قادته وسدنته من العقاب، حتي لو بهد المعبد على من فيه وبما عليه لاخفاء جرائمهم تلك.
عموما أبرز هاتين الصفقتين ما كشف عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بصورة مفاجئة في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الأمريكي ريكس تليرسون بموسكو يوم 12 أبريل سنة (2017).. حيث أماط لافروف اللثام عن صفقة أبرمتها إدارة الرئيس أوباما مع نظام المخلوع البشير، تقوم على أن يقبل النظام الإخواني مبدأ تقسيم السودان إلى دولتين، في مقابل أن تعمل واشنطن على عدم تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي أرتكبت بإقليم دارفور.
ومضى وزير الخارجية الروسي إلى تأكيد أن إدارة أوباما طلبت من موسكو الحصول على موافقة البشير على إنفصال جنوب السودان، وبالفعل وافق الرئيس المعزول البشير على هذه العملية، وفقاً للصفقة الأمريكية التي طرحتها إدارة أوباما علي البشير عبر الوسيط الروسي.
ويقول الكاتب الصحفي فتحي الضو في هذا الصدد:
“لعل أكثر ما ساءني وقد يسوء غيري، هو أن الرئيس المذكور الذي افتضح أمره، ظل يتنبر بالموروثات السودانية، فيدعي الشجاعة ويخرج في الملأ ليقول بأوداج منتفخة (المحكمة الجنائية تحت جزمتي) ثم يرفع عقيرته ويضيف بذات اللغة البائسة دولاً أخرى، في حين كان يبحث في الغرف المغلقة عن خلاصه الشخصي، حتى لو كان ثمنه انفصال الوطن”.
لكن يبدو أن مقايضة أخري لا تقل خزياً عن الأولى لا زالت وقائعها وتفاصيلها طي الكتمان، تكشف عن تقبل نظام المخلوع للتعايش مع الأمر الواقع الذي فرضته السلطات المصرية على مثلث حلايب شلاتين ابو رماد، بعد فشل محاولة إغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في العام (1995)، التي يشير الدكتور الترابي بأصابع الاتهام في شهادته على العصر فيها إلى نائب البشير آنذاك علي عثمان.
إذ تقول الباحثة المصرية أماني الطويل إن إغلاق الحكومة المصرية للحدود مع السودان بعد محاولة الاغتيال فرض الواقع الماثل إلى الآن.
وبدا كأن حكومة البشير ظلت تخشى من إجراءات مصرية مضادة لو أنها صعّدت النزاع حول حلايب، تحسباً لأن تطالب القاهرة الأمم المتحدة بفتح ملف محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك، التي جرت في عام (1995)، وتكوين لجنة دولية لتقصّي حادث محاولة الاغتيال، أسوة باللجنة التي كوّنتها الأمم المتحدة للتقصي في حادث مقتل الرئيس اللبناني رفيق الحريري في ذات العام (2005).
المهم لا أحد يمتلك إلى الآن إجابة حول هل ثمة تحذيرات رسمية مصرية منعت الخرطوم، من المجازفة بتصعيد النزاع السوداني- المصري، وأن يكتفي نظام المخلوع فقط بالإدلاء بتصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع إلى أن عزل عن سلطته في ابريل (2019).
وهل ثمة صفقة أخري علي قاعدة “الأرض مقابل الرقاب”، قد ذهبت بأرض الفشقة لإثيوبيا، التي كانت مسرحا لمحاولة اغتيال الرئيس مبارك، بعد فشل العملية مباشرة؟.