مقالات
هل ما زالت الوثيقة حيّة تسعى؟

د. عبد الكريم الهاشمي:
في لقائه مع قناة العربية ذكر نائب القائد العام لقوات الشعب المسلحة الفريق أول ياسر العطا أن رئيس مجلس السيادة سيخاطب الأمة السودانية في غضون الأيام القليلة القادمة وسيعلن من خلال خطابه إلغاء الوثيقة الدستورية وإعلان وثيقة أخرى تحكم الفترة الانتقالية القادمة والتي أسماها التأسيسية. إن الوثيقة الدستورية التي من المنتظر إلغائها ولدت معطوبة وكسيحة إلغائها لا يستوجب إحيائها من جديد لنحكم عليها بالإعدام مرة أخرى وقد تناول العديد من الكتاب تلك الوثيقة مبينين عوارها. فما هي الوثيقة التي يراد إلغاءها؟ هل هي الوثيقة المزورة كما ذكر د. إبراهيم الأمين عضو اللجنة التي وضعت الوثيقة الدستورية, أم الوثيقة التي تم تعديلها بعد اتفاق جوبا للسلام, أم الوثيقة التي وقع عليها المتمرد “المُعرِد الهالك” حميدتي في يوم 20/8/2019م. ظلت تُخترق كل ما أشرقت شمس من ذات الجهات التي أعدتها حتى صار الأصل هو تجاوزها والاستثناء هو الالتزام بما جاء فيها، وثيقة ممتلئة حتى أذنيها بالثقوب والثغرات. أكبر تعدي وتجاوز تعرضت له الوثيقة الدستورية هو التجاوز والخرق الخاص بتشكيل الحكومة حيث نصت الوثيقة أن تشكل الحكومة من كفاءات مستقلة وليس محاصصات حزبية إذ حدث العكس تماما حيث شكلت الحكومة من أحزاب إما صغيرة الحجم أو مغمورة أو أعضاء في منظمات المجتمع المدني. كثر العويل والتباكي في تلك الأيام على الانتهاكات التي تعرضت لها الوثيقة الدستورية وتعالت الأصوات محذرة من خرقها حيث تبادل طرفا الشراكة وقتذاك الاتهامات بخرقها وعدم الالتزام ببنودها. إن عدم الالتزام بالوثيقة كان متوقعا في ظل تعدد الوثائق حيث كانت هنالك أكثر من وثيقة تم تداولها فضلا عن فتح الوثيقة لإدراج اتفاق جوبا للسلام وهذا بالطبع كان خرقا أرسى سابقة لخروقات أخرى بلغت نحوا من مائة خرق أو تجاوز لبنود الوثيقة اكبرها منصب نائب رئيس مجلس السيادة إذ لم تنص الوثيقة على هذا المنصب في أي بند من بنودها وقد شغله المتمرد حميدتي عنوة. نشرت هذا المقال في يوم 2019/8/14م حيث تناول الثقوب الكبيرة التي تضمنها الوثيقة تحت عنوان “رؤى حول الوثيقة الدستورية”.
لازم إعداد الوثيقة شيء من القصور أو بعض النواقص وهذا أمر طبيعي للعجلة والتسرع الذي صاحب إعدادها كما أن إنفراد مدرسة معينة بإعدادها أثر على محتوى الوثيقة حيث جاءت بعض نصوصها ضعيفة ومكرورة اتسمت بالإطناب وانتفت منها شروط النص القانوني المحكم, كذلك احتشدت بكثير من النصوص التي وردت من باب المجاملة وتطيب الخاطر لبعض مكونات الحراك الثوري ومنظمات المجتمع المدني. عكست الوثيقة بوضوح رؤى الأطراف السياسة ذات التوجه اليساري أو قل التوجه العلماني التي شاركت في صياغتها ومن خلال هذه المشاركة احتفظت لنفسها بأغلبية مطلقة في المجلس التشريعي المنوط به وفقا للوثيقة تغيير اي قانون الأمر الذي يفضي لمزيد من السيطرة العلمانية على الحياة العامة وعلى لجنة وضع الدستور الدائم التي ستكون بالطبع بنفس الاقلبية العلمانية. لست ضد التوجهات الفكرية أو الأيدلوجيات فكل شخص حر في خياراته الفكرية بل الله جل علاه جعل الحرية مبدأً مهما في الحياة فلم يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وإن شاء الله لجعل الناس أمة واحدة و”كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه” و”إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”، و”وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر …” ولكنني ضد فرض الأيدلوجيات، سيما إن جاءت هذه الممارسة من تكوينات تدعي اللبرالية فهي بالتالي تكون قد مارست استبداداً يناقض منهجها الذي يتيح قدرا من الحرية لتيارات المجتمع المختلفة للتعبير عن رأيها. كذلك عكست الوثيقة السعي الجاد والحرص الشديد لتهميش الوجود الإسلامي فى العمل السياسي والأخطر من ذلك تقليص دور التكوينات ذات المرجعية الإسلامية فى صناعة ووضع الدستور الدائم للبلاد، ولعل صمت كثير من هذه القوى السياسية التقليدية والإسلامية من باب الحكمة والتعقل، بالرغم من ذلك ظهرت ردود أفعال غاضبة من بعض الجماعات الإسلامية التي عبّرت عن استيائها وقلقها على مستقبل البلاد في ظل هذه السيطرة العلمانية بل صرح بعضها بأن الوثيقة لا تعنيه في شيء سيما وأنها نزعت بشكل كبير إلى إرضاء وطمأنة التيارات السياسية الليبرالية واليسارية والعلمانية ومنظمات المجتمع المدني على حساب الهوية الإسلامية للبلاد. أغفلت الوثيقة المبادئ الأساسية التي يتضمنها أي دستور، أو إعلان دستوري، أو وثيقة دستوري، كما تضمنت الوثيقة بعض البنود التي تحتاج لبعض الإضاءات التي تهدف ابتداء للتنوير والاستبصار، حيث تتناول بعض النقاط التي وردت في الوثيقة ومنها:
1- لم تبين الوثيقة الدستورية الجهة التي قامت بصياغتها حتى يعلم الجميع أسماء العلماء والمستشارين والخبراء الذين قاموا بإعدادها فبعد إعلانها وظهور ضعفها ظل الكل يتناكرها وكأنها زنيم.
2 – لم تبين الوثيقة الدستورية مصادر التشريع سيما وأن الوثيقة جعلت لنفسها السيادة على جميع القوانين ونصت على حق المجلس التشريعي الانتقالي في تعديل جميع القوانين وبالتالي كان لابد من توضيح مصادر التشريع التي يمكن إتباعها في التشريع والمرجعيات التي قامت عليها. فكيف لوثيقة تمثل القانون الأعلى بالبلاد وتسود أحكامها على جميع القوانين وتلغى أو تعدل القوانين التي تتعارض مع أحكامها ولم تذكر مرجعياتها أو مصادرها فالقارئ للوثيقة والمتتبع لملابسات إعدادها يتوصل بيسر إلى أن الذين أعدوا الوثيقة لم تتوفر لهم الرغبة في ذكر المصادر حتى لا ترد عبارة الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع هربا من الإحراج وإرضاء لقبيلة اليسارية والعلمانيين ومنظمات المجتمع المدني والداعمين لها Donors لكن كان حريّ بهم أن يذكروا بعض المصادر مثل التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب وتقاليده ومعتقداته الدينية حتى تتسم الوثيقة بالمهنية. عدم ذكر مصادر التشريع سيكون أول عقبة تواجه المجلس التشريعي في سن القوانين وإجازتها.
3- لم تنص الوثيقة على مهام وسلطات رئيس مجلس السياده ولا سلطات رئيس مجلس الوزراء حيث أشارت إلى سلطات إنما أشارت في المادة (12) إلى اختصاصات مجلس السيادة وفي المادة (15) إلى اختصاصات مجلس الوزراء كما لم تنص على اختصاصات الوزير المعني وكل ما يتم الآن في تسيير دولاب العمل يتم من خلال اجتهادات أو استنادا على دستور 2005م الذي وردت فيه الاختصاصات والسلطات بصورة واضحة.
4- لم تحدد الوثيقة الدستورية هياكل الحكم الولائي والمحلي واكتفت بالإشارة إلى التدابير اللاحقة وإلى القوانين التي تصدر لاحقا مما أحدث فراغا دستوريا كبيرا في الولايات التي لم تشكل فيها حكومات لفترة دامت لأكثر من عامين دون تحديد لهياكل الحكم الولائي حيث تدار حكومات الولايات عبر المدراء العامين لوزارات الحكومة السابقة كما تدار المحليات بواسطة المدراء التنفيذيين وهذا أحدث خللا كبيرا في برامج التنمية في الولايات بل حدث تدهورا مريعا في الخدمات.
5 – جعلت الوثيقة في المادة12 الفقرة (ك) توقيع مجلس السيادة على القوانين المجازة من المجلس التشريعي الانتقالي صوريا وحتى هذه الصورية تنتفي في حالة امتناع مجلس السيادة عن التوقيع لمدة خمسة عشرة يوماً بعدها يعتبر القانون نافذا بغض النظر عن رأي المجلس سلبا كان أم إيجابا بل ولا تعتبر موافقة المجلس لازمة إذا تم إرجاع القانون للمجلس التشريعي وإجازته مرة أخرى سوا اخذ بتلك الملاحظات أم أسقطها. بالرغم من ذلك يتباكى المكون المدني من سيطرة المكون العسكري فهل هنالك سلطة مدنية أكثر من هذا حيث لا يستطيع مجلس السيادة أو رئيسه تعطيل أي قانون يصدر من مجلس الوزراء أو المجلس التشريعي والذي تم الاستعاضة عنه بالبرلمان المشترك بين السيادي والوزراء والغلبة فيه للمدنيين. فلماذا تجرى محاولات تغبيش وافتعال معركة في غير معترك بين المكونين ومحاولة المكون المدني تبرير فشله بهيمنة المكون العسكري والآن تثار قضية تسليم المكون العسكري منصب رئاسة مجلس السيادة للمدنين فهي رئاسة شرفية كما أوضحت المادة فرئيس مجلس السيادة ليس له سلطة يعطل بها قرارات الجهاز التنفيذي المدني.
6- خلت مهام الفترة الانتقالية الواردة في المادة (8) من أي برنامج يعمل على تحقيق تطلعات الشعب السوداني في الديمقراطية عبر التداول السلمي للسلطة وذلك بتهيئة المناخ للانتقال الديمقراطي وذلك بتكوين مفوضية الانتخابات وإعداد قانون الانتخابات وإعداد السجل الانتخابي وتوزيع الدوائر وقد مضى عامان من عمر الفترة الانتقالية وهذا من أوجب واجبات الفترة الانتقالية.
7- لم تحدد الوثيقة كيفية إنشاء مجلس القضاء العالي الذي ورد في المادة 29 والذي يختار رئيس القضاء ونوابه ورئيس المحكمة الدستورية حيث ترك تنظيم ذلك للقانون دون أن يحدد طريقة تكوينه واختصاصاته وسلطاته والكلية التي يتم عبرها اختيار المجلس وكيف تلتئم وهذا ينطبق على المجلس الأعلى للنيابة مع الأخذ في الاعتبار أن الوثيقة أكدت على استقلالية هذه الأجهزة وتركت كل هذه الإجراءات للقانون الذي لم تحدد الوثيقة الجهة التي تضعه والتي تعتمده والكلية الانتخابية للمجلسين وكيفية دعوتها. الآن الدولة ليس فيها رئيس للقضاء ولا نائب عام معينين إنما تم تكليف من يقوم بهام المنصبين بالرغم من أهميتهما. أول خرق للوثيقة حدث في هذا النص حينما عين رئيس مجلس السيادة رئيس للقضاة مولانا نعمات مخالفا بذلك نص المادة 30 الفقرة 2 التي نصت على استقلالية السلطة القضائية عن مجلس السيادة والسلطة التنفيذية والتشريعية.
8- أشارت الوثيقة الدستورية في المادة 8 الفقرة (15) إلى تفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989م وبناء دولة القانون والمؤسسات. يفهم من المادة أن التفكيك المقصود هو تفكيك مؤسسات النظام السابق ومن ثمّ العمل على إرساء دعائم دولة القانون وبناء المؤسسات شكلت حكومة الفترة الانتقالية لجنة للاضطلاع بهذه المهمة لكنها فشلت فشلا ذريعا في تفكيك مؤسسات النظام السابق بل استهدفت تدمير الخدمة المدنية بفصل وتشريد الكفاءات كما داست وانتهكت كل مبادئ القانون والعدالة التي حضت عليها الوثيقة الدستورية التي أشارت في المادة 6 الفقرة (1) إلى خضوع جميع الأشخاص والهيئات والجمعيات رسمية أو غير رسمية لحكم القانون كما أشارت أيضا في الفقرة الثانية من ذات المادة إلى التزام السلطة الانتقالية بإنفاذ حكم القانون وتحقيق مبدأ المساءلة ورد المظالم والحقوق المسلوبة. إن اللجنة المكونة من الحكومة قد انتهكت حقوق كثير من المواطنين وتضرر من إجراءاتها.
9- ما يحدث الآن من تنازع حول نصوص الوثيقة الدستورية وحدود التفويض الممنوح لكل طرف من الشريكين أو الجلبة التي تثار حول الوثيقة كان يمكن أن يرجع فيه إلى المحكمة الدستورية والتي أشارت الوثيقة لتكوينها في المادة 21 الفقرة (1) بل إن هذه المحكمة المعطلة عنوة معنية رفع الضرر عن كل متضرر من أعمال مجلس السيادة أو مجلس الوزراء وذلك بالطعن فيها إمام المحكمة الدستورية عليه فإن غياب هذا المحكمة يعد خللا كبيرا.
10- لم تحدد الوثيقة الدستورية الجهة التي قامت بصياغتها حتى يعلم الجميع أسماء العلماء والخبراء الذين قاموا بإعدادها. فمن المهم أن تُعرض الوثيقة على المجلس التشريعي الانتقالي بعد تكوينه لتكتسب الصفة الشرعية والاعتماد ولاستدراك أي خلل ولاستكمال النواقص وهذا ما لم تنص عليه الوثيقة.
11- لم تحدد الوثيقة كيفية أو شروط تعديلها أو الإضافة إليها في حال طرأت الحاجة إلى ذلك.
12- لم تنص الوثيقة على الثوابت الجامعة للشعب مثل الديانة، واللغة الوطنية التي يستخدمها الشعب، مثلا دستور 2005 أشار إلى ذلك بـ ” جميع اللغات الأصلية السودانية لغات قومية يجب احترامها وتطويرها وترقيتها والعربية هي اللغة القومية الأوسع انتشاﺭا في السودان” وبهذا النص يكون الدستور قد حدد لغة الدولة مع الاحتفاظ للغات الأخرى بالتواجد، فما هو الحرج في النص على دين الدولة الذي تدين به الأغلبية مع ضمان الدولة للأقليات بممارسة شعائرهم كذلك النص عل لغة الدولة الرسمية وقد ورد ذلك في كثير من دساتير دول العالم الأول.
13- لم تنص الوثيقة على مهام وسلطات رئيس مجلس السيادة ورئيس مجلس الوزراء كما لم تنص على اختصاصات الوزير فقط اكتفت بالنص على المهام و والاختصاصات التضامنية للمجلسين.
14- ليس من اللائق أن ينص في الدستور على تسهيل مهمة المبعوث الاممي لحقوق الإنسان للعمل بالسودان فوضع هذا المبعوث استثنائي وليس أصل حتى يتم النص عليه في وثيقة دستورية لدولة محترمة.
إن الوثيقة الدستورية بها كثير من الثقوب والثغرات وكأنها وضعت عمدا لتكون قنابل موقوتة حيث كانت هذه الثغرات بائنة وواضحة ولعل السبب في وذلك إنفراد شخص واحد بإعداد مسودتها الأولى هو الأستاذ نبيل أديب وهذا ليس إدعاء إنما حقيقة مثبتة. إن الوثيقة الدستورية فقدت شرعيتها يوم أن تمرد حميدتي الذي وقع عليها واصطف لجانبه أحد الاطراف الموقعين عليها وهم قوى الحرية والتغيير, كذلك انقضى اجل الوثيقة بإنتهاء أمدها المقرر بأربعة سنوات وإنهيار الفترة الانتقالية التي وضعت الوثيقة لإدارتها.
Krimhashimi5@gmail.com
0912677147