مقالات

حتى لا تُصبِحُ الخِيانة وجهة نظر

من إشراقات العملية التعليمية فى سنواتٍ خلت الجمعية الأدبية التى كانت تُعطِّر مساءات المدارس المتوسطة بجميل القول والإبتسامة فضلاً عن المناشط الصباحية قبل بدء اليوم الدراسى حيث يتوزع الطلاب حسب الميول والرغبة فى مختلف الجمعيات ( الفِلاحة ، الثقافية ، الدينية وغيرها ) .. ولكن حصة المكتبة كانت هى الأحب إلى قلبى والأثقل فى ذات الوقت حيث كان يُطلب مِنَّا أسبوعياً تلخيصاً ناقداً لأحد الكتب أيَّاً كان موضوعه روايةً أو كتاباً دينياً وغير ذلك حسبما يكون الحظ فى التوزيع على تلاميذ الفصل فى كُراسة مخصصة لهذا الامر وذلك تنميةً لمهارة الكتابة والتذوق فى ذات الوقت .. وكم كُنَّا نتعرض للثناء والمديح تارةً وللتقريع تارةً أخرى .. ومن الكتب التى أعيتنى الحيل معها فى التلخيص وأذكرها جيِّداً رواية *حديث الصباح والمساء* التى نسجتها الأنامل الذهبية لعبقرى الرواية العربية وأسطورتها نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب بخيوط الإبداع وهو يؤرخ فيها لحياة أجيال عديدة من المصريين خلال عقدين من الزمان ورَصَدَ فيها التأثيرات السياسية والإقتصادية والمجتمعية على المواطن المصرى الذى شَكَّل محور أحداث روايته ..
إستدعيت تلك النوستالجيا وأنا أتساءل من لبلادنا لنجيب محفوظ آخر من بنى وطنى ليُحدِّثنا بحديث الصراحة لا بحديث السياسة وأحابيلها ليؤرِّخ لما حدث لبلادنا من تعكيرٍ لصفو الحياة للدرجة التى أسَنَتْ فيها مياه النيل ولم تَعُد صالحة للإغتراف منها أو للإغتسال أو حتى للإصطياد ..!! وليمتحننا فى بسط الوجع العام والهَمَّ الوطنى وخيبة الأمل التى لاتنفك تنهش فى وجداننا ..!! فقد كان إمتحان الحرب مكشوفاً وستر الغيب مرفوعاً عن السبت الدامى لكل مُراقب *للأحداث* ولأولى النُهَى *والأحداث* قبل عُدَّة أشهر من إندلاعها .. والسؤال الذى ظَلَّ يدور فى الأذهان وداخل النفوس *المُتعَبة* دون أن يجد له الجميع إجابة *مُقنعة* حتى الآن من المسؤول عن التفريط الذى أدَّى إلى الدمار والخراب وإيذاء أهل السودان قتلاً وسحلاً ونهباً وإغتصاباً ..!!؟ فمن يؤرِّخ بضميرٍ حى لتلك الأزمة والمعاناة التى تَعَرَّض لها المواطن المقهور الذى ظلّتْ تصفعه تلك التساؤلات فى صباحه ومسائه ..!! ليكتب بحروفٍ صادقة ومتجردة بل ومتمردة إن دعا الحال فوق ما لايُقال .. ما يُقال ..!! وليُحَدِّث التأريخ بأن الذى فَجَرَ وغَدَرَ برفقاء السلاح عشيِّةَ السبتِ للوصول إلى الحكم وإنشاء دولته المزعومة هو من خان العهد ..!! وأن كل من دعا إلى التخريب والتحريض والإتلاف والإعتداء على المرافق العامة والخاصة أوان الثورة بدعاوى الحرية والثورية والتسوية ليجُرَّ البلاد إلى الكوارث والدمار والخراب وإغراق أهلها فى بحورٍ من الدماء هو خائنٌ للوطن ..!! وأن من كان يسعى لنشر الفتنة والفوضى بإختلاق الإشاعات الأكاذيب ويُرَوِّجُ لها فى الآفاق ويفرح لتشويه سمعة السودان والإساءة إليه ويغرس خِنجَره المسموم فى خاصرته خائنٌ للوطن ..!! من يؤرخ لكل ذلك *حتى لا تُصبِحُ الخِيانة وجة نظر أو موقف سياسى ..!!؟* ومن يكتب للتاريخ أن أوضاعنا السياسية والإقتصادية والأمنية والمجتمعية ليست على مايرام بعد الحرب ..!! وأن حديث الصباح والمساء السياسى والإعلامى والإقتصادى هى فى واقع الأمر للتباهى دون أثر ملموس على أرض الواقع وعلى المواطن المكدود فى يومه وغده ومعاشه وصحته وكرامته وتعليم أبنائه وأمنه الإنسانى والمجتمعى ، وهى تصريحات صمَّاء لا تُطعِم جائعاً ولا تسقى ظمآناً ولا تؤمِّنْ خائفاً ولا تشفى عليلاً ولا تُنقِذُ عاطلاً من اليأس ..!! بل هى نوعاً من المكياج على وجه *العَازَّة* علَّها تُزيل بعضاً من البثور والدمامل التى شَوَّهت *خَدَّها السادة ..!!* فالنصر الذى تحقق على المليشيا المجرمة ولم يكتمل بعد لايُقاس ولا يُحسب بالقضاء على كتلتها الصلبة وآلتها العسكرية الضخمة بل يُقاس بإعادة الحياة للأرض الجريحة ورفاهية شعبها المنتصر بفضل الله أولاً وبتضحيات قواته المسلحة ومن معها من الأجهزة الأمنية والمستنفرين .. فما كان من تدافعٍ من أهل السودان وهَبَّتَهم للقضاء على المليشيا وإصطفافهم حول قواتهم المسلحة وقائدها لم يَكُنْ إلاَّ لإيمانهم بأنها الحامية للأرض والعرض ، ولحِسَّهم الوطنى العميق ولإدراكهم حجم المخاطر الوجودية التى كانت تتهدهم وليس إصطفافاً حول الطريقة التى تُدار بها الدولة .. فهذا الإنسان السودانى النبيل يتمتع بحس وطنى عالٍ جداً ونُضجٍ سياسى لامثيل له فى شعوب المنطقة من حولنا .. لعل هذا الوعى الشعبى يكون سبباً بأن لايحتمى قادة البلاد بالأزمة والفاجعة التى تسببت فيها غفلتهم وإفراطهم فى الظنَّ الحسن الذى لا يُحمد فى حقهم كقادة بالأفعى التى سكنت حجرات قصر الحُكم بملمسها الناعم وكان صغارها ينشرون سراويلهم القذرة فى أسوار القصر الجمهورى أمام المارة وضيوف البلاد وممثلى البعثات الدبلوماسية فى مشهد يعكس مدى البؤس الذى كانت تعيشه بلادنا ..!!
ورغم كآبة المنظر الذى خلفته المليشيا إلاَّ أن المارد السودانى الذى خرج من قمقمه سينتفض وسيُعيدُ بلادنا سيرتها الأولى بمشئية الله تعالى .. فماضيها حافِلٌ بالتضحيات ، وحاضرها زاخرٌ بالبُشريَات ، ومستقبلها واعِدٌ بالإمكانيات .. فقط عليها أن تسير على درب العِزّة والخط الوطنى الحقيقى والصادق ، وأن لا تميل حيثُ مالت رياح الوعود الكاذبة أو المكاسب الآنية ولاتتبع وهماً إقليمياً أو دولياً وإن بدا كظِلٍّ ممدود .. فطريقه مسدودٌ مسدود ..!!
الاَ هَلْ بَلَّغت .. اللَّهم فأشهد ..!!
وحفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
*لواء شرطة (م) :*
*د . إدريس عبدالله ليمان*
*الخميس ٧ أغسطس ٢٠٢٥م*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى