مقالات

بيتنا الذى كان.. أو ما تبقى منه

ما وراء الخبر

محمد وداعة:
المكتب ( جوار كمبونى ) ، تعرض للنهب و الاتلاف و سرقة الاف المستندات
استخبارات المليشيا كانت تراقب المكتب منذ ما قبل الحرب ، وهو أمر كان معروف للأجهزة الأمنية و للأصدقاء من القوى السياسية

ليس من شك انها محاولة لمحو ذاكرة المواطن ، بعد أن تم تدمير ذاكرة الأمة فى دار الوثائق ونهب المتاحف و سرقة النيزك الذى هبط علينا من السماء

ما حدث لا يمكن وصفه أو تصويره ، ما حدث ليس من فعل البشر

فى زيارتي الأخيرة للسودان ، وكانت حصرا للخرطوم و الشمالية ، لست أدري اكان شوقآ يستعجل زيارتى لبيتنا القديم أو ما تبقى منه ، أو ربما استعجالا و يقينا للوقوف على حجم الكارثة بعد أن وصلتني لقطات مصورة للبيت.
فى الطريق من أم درمان إلى الخرطوم مررنا بشارع الوادى والشهداء و الموردة ، كان الدمار هائلا، معظم البيوت و المحلات التجارية مفتوحة على مصراعيها ، خاوية على عروشها ، فى العودة شاهدنا وسط الخرطوم و شارع الجمهورية والجامعة وشارع القصر ، لم يتركوا شيئا.

في الشارع المؤدي إلى البيت عربات محروقة وأخرى تعرضت للتفكيك ، ثلاجات ، قطع أثاث ، الأشجار استطالت و تشعشبت، ناصية البيت دارت معارك شرسة لقربه من بيوت حميدتي ويقع فى شارع يؤدى إلى المدرعات، فوارغ الذخيرة من كل حجم و نوع تغطي الأرض ، الجدار الخارجي نال حظه من الرصاص، البيت تعرض للسرقة و النهب و تدمير شبكة الكهرباء ، وأجهزة التكييف، تم حفر أرضية المنزل لاستخراج كيبل الكهرباء الواصل من العمود بالشارع ، وحفرت الجدران لأخذ أسلاك التوصيلات الداخلية ، و كان من السهل سحبها دون الحاجة إلى تدمير الجدار ، و لم يترك مفتاح أو (بلك) أو لمبة ، كان محزنا تدمير الصور واللوحات على الجدران ، بما فى ذلك صور الأسرة ، تم تمزيق و(تشتيت ) البومات الصور فى الحوش وعلى الأرضيات ، الشهادات الجامعية و شهادات الأبناء و الرقم الوطنى وشهادات الميلاد لا أثر لها ، و ربما تكون أسفل اكوام من الأوراق والمستندات تم العبث بها ، ليس من شك أنها محاولة لمحو ذاكرة المواطن ، بعد محاولات تدمير ذاكرة الأمة فى دار الوثائق والمتاحف وسرقة النيزك الذي هبط علينا من السماء.
ما أثار النفس تحطيم اناتيك و مجسمات نادرة ، مجسم الكعبة المشرفة ، تاج محل ، قرن وحيد القرن ، ( خنجر يمنى أصلي ) ، ساعة ( الجيب ) المفضضة ورثة من الوالد عليه الرحمة ، و ساعة جوفيال وقلم باركر و مقتنيات موروثة ، شهادات تقديرية و وشاحات ، فقدان 12 فلاشا تحتوي على ذاكرتى السياسية والصحفية منذ أربعين عاما.

تقديراتى أن البيت تعرض للسرقة و النهب فى ثلاث موجات ، الأولى الاستيلاء على الوثائق والمستندات والشاشات و ما خف وزنه و غلا ثمنه،  الثانية كانت للعربات والثالثة القضاء تماما على الموجودات و تكسير (أي حاجة) تحتوي على النحاس و أخذه، و ما لم يسرق تم تحطيمه.

المكتب ( جوار كمبونى ) ، تعرض للنهب والإتلاف وسرقة آلاف المستندات ، غرفة المكتب الرئيسية تعرض سقفها لقذيفة ومن الواضح أن المكتب تم حرقه بمواد حارقة (الترابيز والكراسي -سايحة -)، وتم استخدام مركز الطاقة الشمسية المجاور مقرا للمجموعة رقم 27-28 من المليشيا بعد نهبه وسرقته تماما و تحويله إلى مركز قيادي ومخزن للمسروقات فى الكونتينرات.

استخبارات المليشيا كانت تراقب المكتب منذ ما قبل الحرب ، وهو أمر كان معروفا للأجهزة الأمنية وللأصدقاء من القوى السياسية ، هم يعرفونه جيدا.
مقر الهيئة الشعبية للشمال فى الخرطوم (3) وجدناه مسيجا بشريط أحمر ، ربما هناك جثث أو مخلفات القصف تحت الركام ، اتخذته المليشيا ارتكازا و مقرا للسيطرة ، فهو يقع فى منطقة حاكمة من الطريق المؤدى للقسم الشمالي والسجانة أو إلى الخرطوم (2) و متفرعات نادي الأسرة.

الأخ الصادق من ساكني جوار المقر وهو من الذين قاوموا التهجير وظل مع نفر قليل حتى التحرير ، قال شهدت قصف المقر بواسطة مسيرة و تدمير الارتكاز و قتل (13) من المليشيا تم دفنهم فيما بعد.
بدأت تباشير العودة إلى مربع (9) جبرة والمربعات المجاورة، تمت إقامة (تكية) ، و يرابط شباب المنطقة في حراسة ما تبقى من ممتلكات المواطنين ، محاولات جادة لاستعادة ضخ المياه بواسطة الطاقة الشمسية ، الحياة بدأت تدب فى السوق المركزى و سوق الشجرة ، مواصلات من أم درمان وبحري للخرطوم وحتى الكلاكلات.

ما حدث لا يمكن وصفه أو تصويره ، ما حدث من فعل الشياطين ، لا يمكن لبشر سوي أن يفعل مثله،  إعادة الحياة رهينة بعودة الجميع خاصة الشباب والمشاركة فى إزالة آثار العدوان، ما جرى لا يمكن وصفه بالسرقة أو النهب هو يتعدى ذلك ، وليس تدميرا ، هو أبعد من ذلك، وليس حقدا أو غلا، هو أكثر من ذلك.
14 مايو 2025م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى