التحول الرقمي في السودان: مشروع لنهضة الدولة الحديثة

بقلم/ الطيب الجعلي الطيب:
في هذا العصر الرقمي، لم تعد قوة الدول تقاس بما تنفقه أو بعدد موظفيها، بل بقدرتها على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وبكفاءة مؤسساتها في خدمة المواطن، وهنا يظهر التحول الرقمي كأداة أساسية، ليس فقط لتحديث الخدمات، بل لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة من الشفافية والكفاءة والمساءلة.
ولعل السودان اليوم أمام فرصة استثنائية لا تتكرر كثيرا: أن يعيد بناء مؤسساته من جديد، لا عبر إعادة تدوير ما مضى، بل بتبني نموذج الدولة الذكية، الدولة التي تدار بالمعرفة، وتخدم المواطن بعدالة، وتحقق التنمية بأدوات هذا العصر.
السودان وفرص للانطلاق من جديد
بعكس دول ظلت ترزح لعقود تحت أثقال البيروقراطية، فإن البنية الإدارية في السودان، رغم هشاشتها، تمثل مساحة نظيفة يمكن البناء عليها بسرعة ومرونة. وكما فعلت رواندا بعد الحرب الاهلية، يمكن للسودان أن يقفز مباشرة إلى النماذج الرقمية الشاملة، دون الحاجة إلى إزالة تراكمات إلكترونية متهالكة.
وفي دول أفريقية أخرى كغانا وكينيا، كان التحول الرقمي مدخلا فعليا لتوسيع الشمول المالي وتسهيل الوصول للخدمات، ما يشير إلى أن أفريقيا ليست متأخرة… ونستطيع أسوة بها ان ننطلق نحو الريادة الرقمية.
تخيل مزارع بسيط في الجزيرة او السلوكي مثلا، يستطيع عبر تطبيق بسيط التحقق من تمويله او دعمه الزراعي، وتتبع حالة محصوله من الأرض حتى مركز التوزيع، دون وسطاء، دون فساد، ودون الانتظار في صفوف المعاملات، هذه ليست رفاهية… ولكنها الكفاءة التي يمكن أن يحققها التحول الرقمي الحقيقي.
الرقمنة يمكنها أن تكون رافعة حقيقة لخطة مارشال السودانية
حين قدم الدكتور كامل إدريس رؤيته لإعادة بناء السودان -المعروفة إعلاميا بخطة مارشال السودانية- وضع ركائز طموحة تمثلت في: السلام، والإنتاج، والسيادة، والعدالة الاجتماعية. ورغم أن التحول الرقمي لم يذكر كعنصر مستقل، إلا أن جوهر هذه الرؤية لا يكتمل دون منظومة رقمية فعالة تدعم تنفيذها وتسرع من تحقيق أهدافها.
فالسلام لا يرسخ دون شفافية وعدالة في الوصول إلى الخدمات، والإنتاج لا يُضاعف دون تتبع ذكي للموارد، والسيادة لا تُحفظ دون امتلاك البيانات، والعدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا من خلال أنظمة تضمن المساواة في الخدمة والفرصة، فالرقمنة ليست بديلا عن خطة الإعمار… لكنها رافعتها الأساسية ومكملة لها.
نحو دولة تقوم على التكامل المؤسسي
التحول الرقمي ليس مجرد إطلاق تطبيقات أو رقمنة خدمات معينة، بل هو تغيير شامل في طريقة إدارة الدولة. المطلوب ليس فقط خدمات إلكترونية متفرقة، بل نظام رقمي موحد يجعل حياة المواطن أسهل — من دفع الرسوم، إلى تتبع المستحقات، إلى معرفة الوضع الضريبي والتأميني من مكان واحد، وبشفافية كاملة.
ومن أهم نتائج هذا التحول المنشود أن تصبح الدولة قادرة على رفع كفاءتها التشغيلية، وضبط نفقاتها وايراداتها بصورة دقيقة، وكشف مكامن الخلل بسرعة، واتخاذ قرارات تستند إلى بيانات دقيقة بدلا من التقديرات العامة. فالتحول الرقمي ليس مجرد تطور تقني، بل يمثل أسلوبا عصريا لإدارة الحكم يعتمد على الشفافية، والسرعة، والمساءلة.
السيادة وحماية البيانات
ما من دولة تستطيع أن تمارس سيادتها إذا كانت بياناتها مخزنة على خوادم خارج حدودها، أو تدار عبر شركات أجنبية. ولهذا، لا بد من إنشاء مركز بيانات وطني، وسن تشريعات قوية لحماية الخصوصية، وبناء كوادر وطنية تجيد إدارة الأمن السيبراني وتتصدى للهجمات الرقمية.
في هذا السياق، لم تعد الحرب تخاض فقط على الأرض، بل تخاض على الشبكات. والدولة التي لا تحمي بنيتها الرقمية، لا تحمي حدودها.
الشباب السوداني.. طاقات كامنة تحتاج إلى فرصة
الشباب هم عماد البناء، وهم الأقدر على تبني التكنولوجيا الحديثة وصياغة مستقبل رقمي للدولة. وفي السودان، تختزن هذه الفئة طاقات هائلة ومعرفة رقمية متقدمة، لكنها غالبا ما تحاصر بشحّ الفرص وقلة التمكين.
المطلوب ليس فقط تدريبهم، بل اشراكهم فعليا في تقديم الحلول. فبدلا من استيراد التطبيقات والأنظمة، يمكن للحكومة أن تفتح المجال أمام المبرمجين ورواد الأعمال الشباب لتطوير حلول رقمية تخدم المواطنين، وتنبع من واقعهم.
تخيل لو فتحنا المجال أمام هؤلاء الشباب لبناء تطبيقات تسهل حياة الناس: من تسجيل الأراضي، إلى متابعة دعم الأسر، أو ربط المزارعين بالأسواق. حينها لن نكون قد عملنا على تمكين الشباب فقط… ولكننا سنكون قادرين على بناء دولة تنتج أدواتها التقنية بنفسها.
الرقمنة والفرص الاقتصادية المهدرة
وفق تقرير للبنك الدولي (2022)، تفقد الدول النامية نحو 30% من إيراداتها بسبب ضعف النظم الرقمية في التحصيل والرقابة. وللسودان، الذي يعاني من فجوة مالية مزمنة، يعني هذا أن التحول الرقمي ليس فقط مجرد إصلاح… بل هو ضرورة للبقاء والبناء.
في دراسة أجرتها شركة ماكينزي، وهي واحدة من أكبر شركات الاستشارات الإدارية في العالم، تبين أن التحول الرقمي قادر على رفع إنتاجية الأجهزة الحكومية بنسبة تتراوح بين 15% إلى 45%.
وهذا لا يعني فقط أن المعاملات ستصبح أسرع، بل أن طريقة العمل نفسها ستتغير، تخيل أن تنجز مؤسسة حكومية في أسبوع واحد ما كانت تحتاج إلي شهر كامل لإنجازه، مع تقليل الفوضى، وتوفير الجهد، والوصول لنتائج أكثر دقة مبنية على بيانات واقعية.
التحول الرقمي ليس هدفا لذاته، بل هو وسيلة للحكم الرشيد والدولة الخدمية
التحول الرقمي ليس غاية لذاته، بل هو وسيلة لبناء علاقة جديدة بين الدولة والمواطن، علاقة تقوم على الثقة، وتقاس فيها جودة الخدمة بسرعة الإنجاز وعدالة الوصول، لا بالمظهر الخارجي أو الشعارات البراقة.
نريد دولة تخدم المواطن، لا أن تكون عبئا عليه. دولة تتيح لك إنجاز معاملتك من بيتك، بدل الوقوف في الصفوف أو حمل الملفات بين المكاتب. نريد موظفا عاما لا يسألك “من طرف من؟”، بل يجدك في نظام واضح، ويتعامل معك كمواطن له حق لا كطالب واسطة.
هكذا تبنى الثقة. وهكذا تصبح الرقمنة خطوة أولى نحو دولة عادلة، حديثة، وقريبة من الناس.
في الختام.. التحول الرقمي في السودان هو مشروع تأسيس لا تحديث. وهو مشروع وطن ودولة وليس مشروع وزارة واحدة. وهو، برأيي، الضمان الحقيقي لإنجاح رؤية بناء دولة الإنتاج والسيادة والعدالة.
لدينا اليوم فرصة ذهبية، اذا ادركنا أن التقنية ليست زينة… بل دعامة للنمو والازدهار و السيادة.
يبقى السؤال مفتوحا أمامنا جميعا: هل سننتظر حتى يفرض علينا المستقبل بشروط غيرنا، أم نبادر إلى صناعته بأدواتنا ورؤيتنا؟.
الطيب الجعلي الطيب
خبير تقنية المعلومات والتحول الرقمي



