الشمال النيلي: مآلات الصراع (٢)

على عسكوري
١٠ يوليو ٢٠٢٥
أكثر ما يسعد الكاتب هو تفاعل القراء مع ما يكتب إذ أن الكاتب بلا قراء كالشجرة بلا ثمرة، لأن الظل وحده ليس كافيا فسرعان ما ينصرف الناس منه، ولكن الثمار تدخل الى دمائهم و من ثم عقولهم وصحتهم، وهكذا..
وصلتنى الكثير جدا من التعليقات والرسائل على مقالى الاول، بعضها موضوعي وبعضها شتائم واساءات لا قيمة لها ولا تعنيني في شىء. فالشتم والاساءة سلوك يمارسه الذين بلا ذخيرة معرفية وينحصر كسبهم المعرفي في لغة قاع المدينة، وهما يدلان على انحطاط الشاتم اكثر من الشخص الموجهة له الشتيمة وكل اناء بما فيه ينضح. وعلى كل بطبعي لا اهتم بالسوقة والدهماء والرعاع الذين نصبوا من اتفسهم كتابا يمتلكون الجرءة للاعلان عن انحطاطهم وجهلهم وافلاسهم الاخلاقي. لقد كثر كتاب السوقة في هذا الزمن البئيس، بعضهم قبض الثمن وبعضهم يفاخر بالتعبير عن جهله! وبعضهم يدافع عن باطل تم نسجه بليل ضد مصالح اهله مقابل (بنكك)! (ان شاء الله ما يكون باعوا اهلهم رخيص) كما قال عثمان دقنة!
ذو العقل يشقى في النعيم بعلمة
واخو الجهالة في الشقاوة ينعم
)ابو الطيب)
وعلى كل لست بصدد هولاء الذين يعمهون في جلهم، انما اكتب تعليقا على ردود وتعليقات موضوعية كثيرة طرح اصحابها نقاط عديدة تستحق التعليق والرد، خاصة ما اثاره بعضهم واتهمنى بانى انفصالى.. هكذا!
لا يعلم هولاء اننى لو كنت انفصاليا لما ترددت في اعلان ذلك صراحة وعلى رؤوس الاشهاد، فالوثيقة الدستورية واتفاق جوبا يمنحان اى مواطن او مجموعة سكانية ذلك الحق كما نوضح! ومن الغريب في بلاد السودان ان يكون التصرف داخل القانون السائد سبة ومذمة بل تهمة! وان كان ديدننا ان يتصرف كل انسان ويكتب على هواه دون ادنى اعتبار للحقوق التى يتيحها الدستور فهذه فوضى وعلى هذه البلاد السلام.
ذكرت في المقال السابق ان هنالك ثلاثة مجموعات في (الشمال النيلي) تتحرك وان لكل منهما طرح سياسي معين. فصلت باختصار تلك الاطروحات، وقلت ان هنالك مجموعة تدعو صراحة للانفصال عن الدولة السودانية وتاسيس دولة مستقلة، وهنالك مجموعة ثانية تدعو للانضمام لمصر ومجموعة تدعو الى اعادة قسمة الموارد الظالمة!
اذن يبقي السؤال: هل تتيح الوثيقة الدستورية (الدستور الحاكم حاليا) للمجموعتين هذا الحق (خق الدعوة لتقرير المصير)، ام ان هاتين المجموعتين تتصرفان خارج المسموح به دستوريا؟
ثبت لى ان كثيرين ممن علقوا على المقال لم يقرأوا الوثيقة الدستورية ولم يقرأوا اتفاق جوبا للسلام. ورغم اننى غير مؤيد لاتفاق جوبا لأنه ظلم اقاليم السودان الاخري واصبح مشكلة في حد ذاته اكثر من كونه حلا لمشكلة، لكن الوحيدين الذين ليس لهم حق الاعتراض على ما كتبت هم اطراف الاتفاق حكومة كانوا ام حركات الخ، وبعض الصبية والغلمان من الانتهازيين الذين يبيعون اقلامهم بأموال منهوبة من الشمال النيلي ومن الجلابة ! ان اعترضت الحكومة و صبية وغلمان الحركات من الكتاب الذين تستأجر اقلامهم، عندها يكونوا نقضوا واخلوا بالاتفاق و سيكون ذلك مدخلا لالغائه. فالاتفاق كتلة واحدة ليس من حق اى جهة انتقاء ما تريد من بنوده وتترك ما لا يروق لها!
لكن دعنا نبدأ بالوثيقة الدستورية لنوضح كيف انها اعطت الحق لجميع الشعوب السودانية في ممارسة حق تقرير المصير حتى لا يتطاول صبية الحركات و كل من هب ودب علينا وعلى اهلنا!
تقول الوثيقة الدستورية في الفصل الرابع عشر المادة (٢) الآتي:
” تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات و العهود والمواثيق الدولية والاقليمية لحقوق الانسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزء لا يتجزاء من هذه الوثيقة” اه
اما اتفاق جوبا للسلام فقد اورد النص اعلاه (بضبانته) في المادة ١٥:١ (تجنبا للتكرار)!
نلفت نظر القارىء للتركيز على حرف (كل) في الاقتباس اعلاه.
من الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان ما يعرف بي ” العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، الذى اصبح نافذا في مارس ١٩٧٦. وقع السودان عليه في العام ١٩٨٦ بعد ثورة ابريل التى اسقطت النميري. اذن فالسودان جزء من ذلك الاتفاق ويتوجب عليه الالتزام به حتى لا تتحول بلادنا الى دولة مارقة!
لكن، ماذا يقول العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية:
ورد في المادة الاولى الاتي:
“١.لكل الشعوب حق تقرير المصير بنفسها، وهي بمقتضي هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادى والاجتماعي والثقافي .
٢. لكل الشعوب سعيا وراء اهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية، دونما اخلال باية التزامات منبثقة من مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولى القائم على مبدأالمنفعة المتبادلة وعن القانون الدولى ولا يجوز في اى حال حرمان اى شعب من اسباب عيشه الخاصة.”.
هذه اذن هى نصوص العهد الدولى المشار اليه، ورغم اننى لا ادعو ولا اتبني اى طرح لفصل اى جزء من السودان ،الا اننى لا استنكف ولا اخون اى شخص او مجموعة تتبني دعوة لفصل اقليمها او منطقتها طالما دعت لذلك بصورة سلمية دون استخدام ثلاثة تاتشرات مشحودة من الجيش وبضع كلاشات تبرع بها حفتر، ويبقي الفيصل هو رغبة الناس في البقاء في الدولة او الخروج منها.
اقول ذلك امتثالا لموافقة القوى السياسية عليه في الوثيقة الدستورية وموافقة الحكومة وحركات دارفور عليه في اتفاق جوبا للسلام، من واقع التزامها بالعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
لكل ذلك ارى ان الذين يطالبون بممارسة حق تقرير المصير في الشمال (النيلي) او اى مكان اخر في السودان، انما يمارسون حقا اعطاه لهم الدستور الحاكم او اتفاق جوبا، وليس لاى جهة الحق في حرمانهم من ممارسة ذلك الحق! تري لماذا يتجنب البعض الفيل ويطعن الظل..! ام هو الابتزاز (الحركي) الذى صار ديدن البعض لاخذ ما ليس من حقه واستعمار بقية شعوب السودان والتحكم في مواردها ومنحها (عطية مزين) من ما تخرجه ارضها.لماذا يتحكم اشخاص لا يساهم اقليمهم في الناتج القومى باى شيء في اهم موارد البلاد. أليس الصحيح ان ينتظروا الى ان يساهم اقليمهم في الناتج القومي خاصة بعد ما اخذوا فرصتهم في ذات المواقع بالزيادة! سنري ان كان سكان الاقاليم الاخري سيقبلون بهم مرة اخري وينتظروا (عطاياهم)!
نصيحة نقدمها لمجلس السيادة وللسيد رئيس الوزراء، ان تسليم الوزارات الايرادية مرة اخري لحركات دارفور مرفوض شعبيا ليس في الشمال النيلي فحسب، بل في كل السودان، وفي حالة حدوثه لا اشك انه سيتسبب في اشكالات امنية كبيرة. مؤشرات هذه الاشكالات بادية للعيان لمن القي السمع وهو شهيد. فالكل يعلم ان اتفاق جوبا للسلام اتفاق بين حركات متمردة وحكومة انتقالية محدودة الشرعية، ولم تتم اجازته من برلمان كما تم في اتفاق نيفاشا حتى يكون ملزما للمواطنيين، ولذلك لا علاقة للمواطنين به ليس في اقاليم السودان الاخري فحسب، بل حتي في دارفور نفسها! لكل ذلك ومن واقع زياراتي لمدن في ولايات مختلفة ولقاءات كثيرة انصح بتوخي الحذر الشديد حتى لا تسقط البلاد في دورة جديدة من الاشكالات الامنية! اذ من الخطأ الكبير شرعنة البندقية كوسيلة للسيطرة على موارد الدولة! ان تمليك موارد الدولة لقبيلة واحدة من بين حوالى خمسمائة قبيلة في البلد لكل هذه الفترة الطويلة سيدفع المجموعات الاخري لسلوك ذات الطريق وتلك هي المقتلة التى يجب تفاديها..!
يلاحظ ايضا ان حركات دارفور ورغم كل ما حاق بإقليمهم و مجتمعاتهم من دمار وجرائم لم تطالب قط بحق تقرير المصير ! تري هل ذلك ايمانا بي (الوحدة) المتخيلة ام ان بريق ذهب الشمال النيلي لا يقاوم ويسيل له لعاب التاتشرات! فبينما لا يستطيع ابناء الشمال النيلى او الجلابة او مجموعات اخري كثيرة غيرهم العمل في مناطق عديدة من كردفان وكامل دارفور، ينتشر ابناء دارفور في كل ولايات السوظان يبتغون من خيره بينما ظل اقليمهم لاكثر من عقدين محرما على المجموعات السكانية الاخري! ان ابسط حقوق المواكنة تقتضي ان يعمل غى مواطن في اى بقعة من الوطن، اما ان يمون لمجنوعة محددة حق العمل في كل الاقاليم بينما تمتع بقية المجموعات السكانية من العمل في اقليمها فذلك يمثل خللا جوهريا في حقوق المواطنة المتساوية. وان كان ابناء دارفورر مواطنين وحركات يرغبون في العمل في الاقاليم الاخري عليهم اولا- وقبل ملاحقة المعادن في فيافي الشمال والشرق- العمل مع القوات المسلحة لتحقيق الامن في اقليمهم وفتحه للمجموعات السكانية الاخري للعمل فيه. ذلك وحده ما يحقق المواطنة المتساوية، اما الوضع الحالى فأقل ما يمكن ان يقال عنه انه مختل. يجب ان تكون اولوية (جميع) ابناء دارفور هي اعادة الامن لاقليمهم والسماح للمجموعات الاخري بالعمل فيه على قدر المساواة وليس وصفهم بالجلابة!
يخطىء كثيرا من يظن ان هذه الاوضاع المختلة ستستمر هكذا، فإما وطن يتساوى فيه الجميع، او سينصرف الناس لبدائل منصفة اخري، اذ لا مصلحة لاحد ان يعيش تحت سطوة وابتزاز مجموعة اثنية واحدة اصبحت تمسك بتلابيب البلاد وتأخذها كرهينة!
ستعود كل هذه الموارد لاهلها وان طال السفر. !
ان الليالي حبالي يلدن كل جديد!
*هذه الارض لنا*




