من جلسة قهوة على الطريق إلى رؤية وطن

بقلم/ الطيب الجعلي الطيب:
“لو اشتغل السودانيون لبلدهم بنفس الجدية التي يعملون بها في الخليج… لتغيّر السودان كله.”– قريزيلدا الطيب
لم تكن قريزيلدا الطيب مجرد أرملة لعلامة سوداني فذ، كانت فنانة وكاتبة ومعلمة بريطانية، اختارت السودان وطنا بكل وعيها وحبها.
تركت لندن في الخمسينيات، واستقرت في أرض النيل، فعاشت فيه أكثر مما عاشت في موطنها الأصلي، ودرست فيه، وأحبت، ثم أوصت بأن تدفن بجانب زوجها في ترابه.
كما قالت يوما لمذيع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC):
“عشت في السودان أكثر مما عشت في بريطانيا. أريد أن أموت هنا. هذا وطني.”
قصتها ليست فقط عن الحب… بل عن الإيمان.
عن قناعة عميقة بأن السودان يستحق أن نؤمن به، ونراهن عليه، ونزرع فيه بذور التحوّل.
*قهوة “البكاش”… والحديث الذي فتح الباب للرؤية*
في ظهيرة قائظة من صيف عام 2009، توقفت عند كافتيريا متواضعة تدعى “البكاش”، على طريق “التحدي” الرابط بين الخرطوم ونهر النيل.
ذاك الطريق الطويل، الذي يشق رمال الصحراء، هو أكثر من مجرد إسفلت… إنه شريان للتنمية والأمل، يحمل في صمته حكايات قرى وحضارات.
جلست تحت “راكوبة” من سعف النخيل، أرتشف قهوتي السودانية، دون أن أدري أنني على موعد مع لحظة غيرت نظرتي.
كانت قريزيلدا الطيب تجلس بهدوء إلى جانب صديقي علي خضر الذي كان يرافقها في الرحلة .
رحّبت بي بابتسامتها الهادئة، وصوتها الذي يدمج اللكنة الإنجليزية بالدارجية السودانية بلطف وود.
تحدثنا عن الطريق، عن الطقس، ثم عن عبدالله الطيب… وعن حبه لقريته “التميراب” التي تقابل “الدامر” عبر النيل.
“عبدالله كان دايما يحلم يشوف منطقته فيها، تنمية ومشاريع ونهضةحقيقية.. .”
قالتها بعينين تتأملان البعيد.
كنت أحمل معي بعض ثمار البرتقال والقريب فروت من بساتين الأسرة.
قدّمت لها بعضها، فأمسكت ثمرة قريب فروت وتأملتها قليلا، ثم قالت:
“ثماركم طعمها ممتاز… لكن شكلها ما مغري. ليه ما تطوروا الأصناف؟ ليه ما تعملوا مصنع عصائر؟ عندكم الفاكهة… وعندكم المغتربين!”
قلت لها بابتسامة حذرة:
“المصنع عايز كهرباء، وتمويل، وتنظيم…”
ابتسمت، وأخرجت من حقيبتها قطعة كروشيه صنعتها بيديها، واهدتها لي، ثم قالت:
” السودانيين في الخليج بتشتغلوا بجد. لو اشتغلتوا بنفس الجدية دي هنا… ما حتحتاجوا لأي زول.”
كلماتها كانت أشبه بمرآة.
لماذا يبدع السوداني حين يعمل في الخليج، وينتكس حين يعود إلى وطنه؟
لماذا تختفي منه الحماسة والنظام والطموح؟
ما الذي يمنعنا من بناء ما نبنيه في الخارج… هنا على أرضنا؟
*القريب فروت ورؤية السودان*
في تلك الثمرة، رأت قريزيلدا شيئا أكبر من الطعم.
رأت إمكانات ضائعة،
رأت مذاقا يحتاج تغليفا أنيقا،
كأنها رأت السودان نفسه:
غني من الداخل… مهمل في الشكل… منتظر من يعيد تقديمه للعالم كما يستحق.
*التنمية لا تبدأ من العاصمة… بل من المزارع*
اقتراحها العفوي بإنشاء مصنع عصائر، لم يكن مجرد فكرة، بل دعوة لفهم جديد للتنمية.
خذ الزيداب كمثال:
فاكهة وفيرة، أياد ماهرة، مزارعون منتجون، مغتربون… لكن لا توجد مصانع، لا سلاسل إمداد، ولا حتى خطة تنموية متكاملة.
النتيجة؟
مواسم تمر، ومحاصيل تفقد بدون إضافة قيمة لها، وثروات تباع بأبخس الأثمان.
*من المسؤول؟ وكيف نبدأ؟*
لا يمكن تحقيق تنمية ريفية حقيقية إلا إذا التقى أربعة أطراف:
1. الدولة: بتوفير التشريعات المرنة، والطاقة المستقرة، والبنية التحتية الذكية.
2. المصارف: بوفير تمويل إنتاجي تشاركي، لا قروض استهلاكية خانقة.
3. المغتربون والمنتجون
بإنشاء شركات مساهمة جمعيات تعاونية إنتاجية بإدارة احترافية وشفافة.
4. المجتمع المحلي
بالتنظيم الذاتي، والعمل التعاوني، وتجاوز الفردية.
لماذا لا نطلق “صندوق شباب العصائر”؟
فلنجعل من فكرة قريزيلدا مشروعا:
صندوق لدعم مشاريع تصنيع العصائر وتجفيف الفواكه و البصل في نهر النيل.
تمويله من المغتربين السودانيين.
إدارته شفافة، تركز على التشغيل والتصدير.
شركاؤه: الشباب والمزارعون والمغتربون.
فكرة بسيطة… لكنها قد تخلق المئات من الفرص، وتحول الفاكهة إلى فرصة تنموية.
*في تراب السودان يرقد من آمن به*
في أرض السودان يرقد البروفيسور عبدالله الطيب…
وبجانبه ترقد قريزيلدا،
ليس كضيفة اجنبية… بل كسودانية.
آمنوا بهذا الوطن حتى النهاية.
لم يغادروه في الصعب… ولم يساوموا عليه.
*تركوا لنا رسالة:*
ابدؤوا بما تملكون… وسيتبعكم الباقون.
كثيرون خرجوا من السودان ولم يعودوا.
قريزيلدا جاءت إلى السودان… ولم تغادره أبدا.
وهذا في حد ذاته… رؤية وطن.