خواطر فى المرحوم السفير عبدالله الأزرق

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾
انتقل إلى الرفيق الأعلى أخي العزيز الحبيب وصديقي الصدوق الوفي عبدالله الأزرق، الذي عايشته سنينَ عددًا، وساكنته مددًا، فعرفته عن كثب، وخبرته عن قرب. التقينا في الجامعة الإسلامية بأم درمان، وسكنا معًا بعد التخرّج، وعشنا سويًّا (الحارة والباردة، الحلوة والمرة). فأنِعْمَ به من أخٍ وصاحب.
تعجز الكلمات في مثل هذا الوقت عن التعبير وسرد واستعراض المواقف الطريفة والظريفة واللطيفة والحرجة، وما أكثرها، إلا أنّها جميعًا تنمُّ عن معدن “الأزرق” (هكذا كنا نناديه)، وأصالته وإنسانيته، وحبّه للآخرين وتفانيه في خدمتهم.
وكما عرفتُ الفقيد “الأزرق” وخبرته في السودان، فقد عرفته وخبرته خارج السودان حين كان سفيرًا بالعاصمة البريطانية لندن، فكان هو هو… ابن بلدٍ أصيل شهامة وكرم ولمَ لا؟ وقد نشأ في بيت علمٍ ودينٍ وأدب، وتربّى في بيئة تصوف وقرآن، أضف إلى ذلك ترعرع في مجتمعٍ أسريٍّ شفيف، ودود، متماسك، ومترابط، نادرًا ما تجد له مثيلاً في الودّ والمحبّة والاحترام والتقدير.
ذلك هو مجتمع وبيئة أهلنا في “الصوفي الأزرق” بالقضارف.
وقد جمعتني الظروف أيضًا بالفقيد “الأزرق” خارج السودان، وعشتُ معه مدة في نيويورك عندما كان يحضّر للدراسات العليا ويسكن منطقة “برايتون بيتش” في بروكلين. فقد كان سفيرًا للسودان قبل أن يكون سفيرًا، ودبلوماسيًّا قبل أن يصبح دبلوماسيًّا، في تعامله مع مجتمع متنوع في تلك المنطقة، التي تسكنها غالبية من اليهود، إلى جانب جاليات أوروبية، وإسلامية، ومجتمعات من شرق آسيا، والجاليات العربية من مصريين، ويمنيين، وسوريين، وشوام عمومًا، وأتراك، إلى جانب الجالية السودانية.
في هذا التنوع، كانت دبلوماسية الفقيد “الأزرق” حاضرة فكان سفيرًا للسودان بحق خلقٌ، وأدبٌ، واحترامٌ، وكرمٌ، وشهامة.
في هذه اللحظات الحزينة، تداعت عليّ ذكريات الماضي، فأطلقت لها العنان، وأخذت أقلب الدفاتر، فعادت بي الذاكرة إلى بداية الثمانينات، حيث ضمّنا منزلٌ متواضع بحي “الرباطاب”، أحد أحياء أم درمان العريقة، وهو منزل عمّنا المرحوم إسماعيل عثمان، “وما أدراك ما عمّ إسماعيل وأبناؤه وداعة، ومصطفى، ودكتور بشرى”.
في هذا المنزل، كانت تقيم مجموعة من الخريجين الرشيد الأزرق، النعيم الترابي، آدم مستور، عوض عدلان، كمال جعفر، جلال ناصر، عبدالله الشايقي، عثمان الطيب، إبراهيم عارف، المرحوم مجذوب مدني، المرحوم عبدالله الأزرق، وعمر حمد (الشقيق الأصغر للمرحوم الأزرق) وشخصي.
هذا المنزل على بساطته، إلا أنه كان قبلة للضيوف. وللحق، كان أكثرنا بشاشةً وترحيبًا بالضيوف ومؤانستهم الأزرق، رحمه الله، دون تكلف، لأن هذا طبعه وصبغته التي اصطبغ بها، وشأن البيئة التي نشأ فيها، والنبع الصوفي الذي تشرب منه. وكان وقتها يعمل بوزارة الطاقة، الإدارة القومية للطاقة الجديدة والمتجددة – إن لم تخني الذاكرة – حتى غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبتعثًا من الوزارة للدراسات العليا.
وامتدت العلاقات بين هذه المجموعة من “العزّابة” إلى الأسر. وأكثر الأسر ارتباطًا بنا وتواصلاً معنا أسرة عبدالله الأزرق وعبدالله الشايقي، حيث كانت تأتينا خيرات القضارف (زيت السمسم نموذجًا)، ويأتينا من الشمال التمر نموذجًا.
ومع مرور الأيام، فرّقت السبل بين أعضاء هذه المجموعة، وتعدّدت الالتزامات، وكثرت المشاغل، وفتر التواصل. إلا أن تواصل المرحوم “الأزرق” معي امتدّ وظلّ مستمرًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الهاتف.
كان آخر اتصال مباشر له حينما هاتفني معزيًا في وفاة الوالدة، رحمها الله، وهاتفني قبلها بأيام مستفسرًا عن خبر مزعج عن مقتل شقيقة زوجته وابنها الدكتور يحيى، اختصاصي الجراحة، عند اقتحام الجنجويد لمدينة رفاعة، واتضح أن الخبر لا أساس له من الصحة، فحمد الله على السلامة.
إننا نعزي أنفسنا في هذا الفقد الجلل، ونعزي أسرته الصغيرة ابنه أحمد، وأخواته، ووالدتهم المكلومة. ونعزي أسرته في “الصوفي” إخوته علي، ومحمد، ومدثر، وعمر، وخاله عمر البشير، وبقيّة آل الأزرق فردًا فردًا، بل كل أهل “الصوفي” ومواطني القضارف عمومًا في هذا المصاب العظيم.
اللهم اغفر لأخينا عبدالله، وأسكنه الفردوس الأعلى، دون حسابٍ ولا سابقة عذاب.
اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اجعله في سدرٍ مخضود، وطلحٍ منضود، وظلٍّ ممدود، وماءٍ مسكوب، وفاكهةٍ كثيرةٍ لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة.
اللهم ألزم أهله وذويه وزملاءه وإخوانه الصبر الجميل.
إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الزبير عثمان أحمد
٩ يوليو ٢٠٢٥