القضاء بين ميزان العدل وحضيض الهوى

د.عبد الكريم الهاشمي:
يعد الظلم أعتى أدواء النفوس، وأقبح ما يُبتلى به الإنسان، ما وجد في قلب إنسان إلا أفسده، ولا نزل بساحة مجتمع إلا أضعفه، وفرّق أوصاله، وانذوت في قلوب أفراده معاني الثقة والطمأنينة، هو أصل كل بلاء اجتماعي، ومصدر كل انحراف أخلاقي، ومنبع كل فساد سياسي أو إداري أو قضائي، وما من مجتمعٍ استشرى فيه الظلم إلا تآكل من داخله، وتقطعت أوصاله.
إن ظلم الناس لبعضهم البعض لمرير وثقيل، غير أن أفظع أنواع الظلم وأشدها وطأةً، هو ظلم القاضي الذي نُصّب لإقامة العدل، فإذا هو يطغى باسم القانون، ويتجبر بسلطان المنصب، وذلك لأنه ظلمٌ يُرتكب تحت عباءة العدالة وباسم القانون، وهو ما يجعله من أبغض صور الجور وأشدها فتكًا بثقة الناس في الدولة ومؤسساتها.
إن القاضي العادل هو ظلّ الله في الأرض، يطمئن الناس ويأمنون إلى حكمه وعدله، يزن الأمور بميزان الحق لا الهوى، ويحكم بعقله لا بعاطفته. قال النبي صلَّ الله عليه وسلم “القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، قاضٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاضٍ عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، وقاضٍ قضى للناس على جهل فهو في النار”.
فإذا جار القاضي في حكمه، أو أمال كفته بالهوى، فقد خان أمانة الله، وأضاع حرمة المنصب الذي اعتلاه، وصار سوطًا من سياط الظلم بدلا من أن يكون سيفًا للحق. من أسوأ صور الظلم أن يتأثر القاضي في حكمه بانتمائه الفكري أو السياسي أو الجهوي أو الأثني، أو أن يكون أداة طيّعة في يد سلة شريرة لتنفيذ مؤامرات آثمة، أو يبني حكمه على الوشاية والظن والغيبة والضغينة والاغراض الشخصية، وليس على البينة والبرهان. وأشرّ من ذلك أن يصرح القاضي بعزمه علي الادانه في مجالس خاصة، قبل أن يستمع للبينات.
إن القاضي الذي يتعسّف في استجواب المتهمين والشهود، ويُمارس ضدهم قدرا من الإرهاب اللفظي والنفسي، وكأن العدالة خصم لا ميزان، فإنه يتحوّل من قاضٍ محايدٍ إلى خصمٍ وضيع.
إن القاضي الذي يبحث عن إدانة المتهم لا براءته، هو قاضٍ جائر نسي أن الأصل في الإنسان براءة الذمة، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته ببينةٍ لا بشكٍ ولا باستنتاجٍ ولا بترجيحٍ يقوم على الظن، ولا تثبت الجريمة إلا إذا اكتملت أركانها واكتنفها يقينٌ لا يُداخله شك.
إن البينة هي حجر الأساس في التقاضي والخصومة، فالقاضي الذي لا يميز بين البينة الصحيحة والشهادة المردودة، وقول الشريك، أو الشاهد العدائي، أو يُصدر حكمه على شهادة خصمٍ أو شريكٍ، دون دليلٍ مؤيد أو معضد، فهو قاضٍ لا يؤتمن على العدالة، بل هو قاضٍ جائرٌ ظالم، لأن الحكم العادل لا يُبنى إلا على بينةٍ تُضيء كالشمس في رابعة النهار، والقاض العادل يحرص على مثل هذه البينة، ولا يميل لاستنتاج البينات للادانة، فهو مكلف ببراءة المتهم، مثل ما هو مكلف بإدانة عند ثبوت الجريمة، فاستنتاج البينات لا يُقيم عدالة، والظن لا يُبنى عليه حكم. بل إن القاضي الحقّ هو من يعتقد جازما أن الأصل في الإنسان براءة الذمة، وأنه لا عقوبة إلا بجريمة، ولا جريمة إلا بنصٍ ودليلٍ قاطعٍ لا لبس فيه.
إن القاضي الذي يتشفى ويغالي في العقوبة، وكأن بينه وبين المدانين ضغينة أو ثأر، بل أحيانا يتربص بهم ويصرح بإدانتهم، فهذا القاضي لا يفهم روح القانون، ولا يدرك أن العقوبة ليست وسيلة للانتقام بل وسيلة للإصلاح والتوازن. فالقانون الإنساني الرشيد يراعي تناسب العقوبة مع الجرم، ويَزِنها بميزانٍ دقيق، يراعي جسامة الفعل، وخطورته، وشخصية المتهم أو المدان، وظروفه. وسوابقه، أما من تغلُب فيه نزعة التشفي على ميزان الحكمة، فهو بعيد عن روح العدالة، مهما تزيّا بثوبها ولباسها.
إن القضاء الواقف لا يقل أهمية عن القضاء الجالس. فالمحامي شريك في إظهار الحقيقة، واللسان الناطق بحق موكله، وقوفه أمام منصة القضاء ليس استجداءً ولا تبعية، بل أداءً لواجب مهني شريف. فالقاضي الحاذق الحصيف هو من يتعامل مع المحامين بوقارٍ واحترام، يصغي إليهم كما يصغي إلى صوت العدالة نفسها، ويمنحهم ما تفرضه الأصول من تقديرٍ وكرامة. أما القاضي الذي يتعامل مع رجال القضاء الواقف بصلفٍ وازدراء، فيقاطعهم بغير مسوغ، ويستهين بوجودهم أمام موكليهم، ويعمل على إضعاف هيبتهم في ساحات العدالة، فهو لا يهين المحامي فحسب، بل يهين القضاء ذاته، لأن العدالة لا تقوم على إذلال أحد جناحيها. فالمحامي الضعيف لا يصنع قضاءً قويًا، واحترام المحكمة للمحامي ليس منّةً، بل من مقتضيات شرف القضاء ذاته.
إن القضاء ليس حرفةً يُمارسها من شاء، بل رسالةٌ مقدسة لا يؤديها إلا من صفا قلبه، واستقامت نفسه، وامتزج علمه بالحكمة، وعدله بالرحمة وسلوكه بقيم السماء.
يمثل القضاء عماد الدولة وتاجها، فإن صلح صلح الناس، وإن فسد فسدت معه الأخلاق والنفوس.
فليت كل قاضٍ يتذكر أنه يجلس على كرسيٍ لا يعلوه إلا الحق، وأنه مؤتمن على مصائر لا تعوض، وأرواح لا تستعاد، وسمعةٍ لا تُرمم. وليعلم أن ميزان العدل لا يُقام إلا على قلبٍ طاهرٍ من الغرض، ولسانٍ لا يقول إلا الحق، وبصيرةٍ لا تضللها الأهواء. ومن لم يدرك هذه المعاني، فليس جديرًا بمقام القضاء، ولا بأمانة العدالة التي لا تطيق إلا القلوب النقية والعقول السليمة.
لا يظنن قاضٍ، إن السلطة التي بين يديه هي سلطانًا على رقاب العباد، بل أمانة في عنقه أمام الله والتاريخ.
قد يدفع القاضي غرور المنصب، أو توهم العصمة، أو هوى النفس إلى الجور، ولكن يجب أن يتذكّر أن قوة الله فوق كل قوة، وعدله لا يغيب فهو العزيز المنتقم وإذا أخذ فإن أخذه لقويٌّ شديد، فما أسرع تقلب الأحوال ودوران الايام، فكم من قاضٍ ظن أنه فوق المحاسبة، فإذا بالأيام تكشف عواره، والزمان يُذيقه مرّ صنيعه بالآخرين، فسِجِل التاريخ يحفظ أن قضاةً ظَلَموا وخانوا الأمانه، فهُلِكوا واندثرت ذكراهم، كما سجل التاريخ في صحائفه بمداد من ذهب سيرة قضاةٍ عدلوا فخلُدت سيرتهم بين الناس بل صاروا نبراسًا للحق والإنصاف. فالتاريخ لا يخلّد أسماء القضاة بالتعسف والتشفي في أحكامهم، بل بعدلها ونزاهتها.
Krimhashimi5@gmail.co
0912677147




