السرطان في السودان.. قصص مقاومة تُعيد تعريف النجاة

تحقيق- حنان الطيب:
في السودان، لا تُروى قصص السرطان فقط داخل غرف العلاج، بل تُحكى في المساحات العامة، على المنصات، وفي الحملات التي تقودها نساء واجهن المرض بشجاعة.
من بينهن الفنانة منى مجدي، التي أعلنت تعافيها وشاركت في حملات التوعية، متحدثةً عن أهمية الدعم النفسي والروح الإيجابية خلال فترة العلاج.
كما برزت أصوات إعلاميات وصحفيات سودانيات خضن تجربة المرض وتحولن إلى داعمات للتوعية، مثل لمياء متوكل وهبة المهندس، اللائي كسرن حاجز الصمت والوصمة، وأثبتن أن مشاركة القصة تُعيد للمرأة إحساسها بالقوة، وتُشجع الأخريات على الكشف المبكر وعدم الاستسلام.
في هذا التحقيق، تُروى شهادات حيّة من سياقات هشّة، حيث يتقاطع السرطان مع الفقر، النزوح، وانعدام التأمين الصحي.
من لاجئة تُصارع الورم في المنفى، إلى طفلة تغني للشفاء، ومن رجال يُلهمون بالصمت، إلى نساء يُحاربن بالكلمة؛ قصص تُعيد تعريف النجاة، وتُثبت أن الإعلام حين يُنصت، يُنقذ.
هذا التحقيق يتتبع أثر المرض في حياة المرضى والناجين، ليس فقط من زاوية طبية، بل من زاوية إنسانية ونفسية، ويُسلط الضوء على أهمية الدعم المجتمعي، والتوعية، وقوة الإرادة والتمكين في مواجهة السرطان.

أصوات الناجيات:
حين يتحول الألم إلى وعي في قلب كل تجربة نجاة، صوتٌ لا يُنسى. صوتٌ يُقاوم الوصمة، ويُعيد تعريف القوة والجمال، ويُثبت أن المرض لا يُطفئ نور الذات.
لمياء متوكل الإعلامية لم تُهزم، بل واجهت المرض بالوعي، ووقفت أمام الميكروفون كصوتٍ للناجيات، تُكسر الصور النمطية وتُعيد للمرأة قوتها الرمزية.
أما الفنانة منى مجدي، التي خاضت تجربة العلاج في ظل ظروف سياسية واجتماعية قاسية، فتقول:
“السرطان لم يكن عدوي الوحيد، بل الخوف من أن يُسلب صوتي، أن يُمحى حضوري كامرأة في الفضاء العام. لكنني قاومت، وكتبت، وغنيت، ووقفت أمام الكاميرا بلا شعر، بلا خوف.”
ومن جانبها، قالت سعاد عمر، الناجية التي تحولت إلى ناشطة مجتمعية:
“حين شُفيت، لم أعد كما كنت. أصبحت أكثر وعيًا، أكثر جرأة. بدأت أرافق النساء إلى مراكز الفحص، وأتحدث في وسائل الإعلام عن تجربتي. الألم علّمني أن أكون صوتًا لمن لا صوت لها.”
أصواتنا لا تُلهم فقط، بل تُطالب بحق الوصول إلى الفحص والعلاج والدعم النفسي، كحق إنساني لا يُساوم عليه — خصوصًا في سياقات النزوح واللجوء، حيث تُحاصر النساء بالعزلة والخوف.
ومن بين الأصوات التي تجاوزت التجربة الشخصية إلى الفعل المجتمعي، برزت الإعلامية لمياء متوكل، التي جسدت في احتفالية أكتوبر الوردي بولاية النيل الأبيض هذا العام معنى النجاة كمنصة للتوعية والتغيير.
من التجربة الشخصية منصة للتغيير المجتمعي .
في احتفالية أكتوبر الوردي بولاية النيل الأبيض، لم تكن الإعلامية لمياء متوكل مجرد راعية إعلامية، بل كانت صوتًا حيًا للتجربة والنجاة. بصوتها الإذاعي العذب، وقفت أمام الحضور لتروي حكايتها الشخصية مع سرطان الثدي، الذي أصيبت به قبل سنوات، لتصبح إحدى الناجيات، ثم ملهمة للأخريات.

افحصي.. تسلمي
لمياء، التي خاضت رحلة العلاج بكل مراحلها، أطلقت قبل ست سنوات “مبادرة الإعلامية لمياء متوكل”، التي وصلت اليوم إلى نسختها السادسة، تحت شعار “افحصي.. تسلمي”. تهدف المبادرة إلى نشر الوعي بسرطان الثدي، وتقديم خدمات الفحص المبكر عبر عيادات متنقلة في المرافق الصحية والتعليمية، إلى جانب تنظيم محاضرات توعوية في محليات مثل تندلتي وكوستي.
بالوعي نناهض المرض
في الاحتفالية، شاركت لمياء في تكريم عدد من الناجيات، وسردت بنفسها قصصًا مؤثرة، من بينها قصة زبيدة، التي روتها أمام الحضور بأسلوب إذاعي مشحون بالعاطفة. زبيدة، الطالبة التي أصيبت بسرطان الغدد الليمفاوية، لم تستسلم، بل واصلت رحلة العلاج والدراسة في آنٍ واحد.
في لحظة فارقة، اجتازت امتحان المرحلة المتوسطة بمجموع 265 درجة، لتنجح في امتحانين: الشفاء والتعليم. كلمات لمياء عنها كانت بمثابة إشادة علنية بالإرادة النسائية، قبل أن تُعلن جامعة النيل الأبيض منح زبيدة منحة كاملة لدراسة التمريض، تكريمًا لصمودها.

من الناجية إلى الملهمة
كما ألهمت الحضور بقصة ظلال، المعلمة التي خضعت لبروتوكول علاجي صارم، لتصبح رمزًا للصبر والثبات، وقدّمت شهادتها أمام الحضور لتؤكد أن النجاة ليست فقط جسدية، بل نفسية وروحية أيضًا.
لمياء متوكل، التي كانت صلعاء لسبعة أشهر بسبب العلاج الكيميائي، قالت للحضور:
“كنت أعتقد أنني أجمل أنثى في العالم. بالوعي نناهض المرض.”
كلماتها لم تكن مجرد شهادة، بل كانت دعوة مفتوحة للنساء لكسر حاجز الخوف، والتمسك بحقهن في الفحص والعلاج والدعم، في وطن يستحق أن تُشفى نساؤه، وتُكرّم نجاتهن.
محمود: الصمت الذي يُلهم
في مركز الأورام بمدينة مروي، يجلس محمود يوسف، رجل في الخمسينات من عمره، ينتظر جرعته الثالثة من العلاج الكيميائي. لا يتحدث كثيرًا، لكن حضوره يُشعّ بهدوء غريب، كأن جسده يُقاوم بصمت، وكأن عينيه تُخبرانك أن المعركة لم تنتهِ بعد. يحمل دفترًا صغيرًا يكتب فيه تأملاته، ويقول:
“السرطان علّمني أن أُعيد تعريف القوة. القوة ليست أن أُخفي ألمي، بل أن أسمح لنفسي أن أشعر، وأستمر.”
الممرضات يعرفنه جيدًا، ويقولون إنه يُشجع المرضى الجدد دون أن يتكلم كثيرًا. يبتسم لهم، يُربّت على أكتافهم، ويشير إلى كرسيه:
“أنا هنا منذ ثلاثة أشهر، وما زلت أبتسم. ستفعلونها أيضًا.
علي: من الألم إلى التوعية
في أحد مستشفيات السودان، جلس علي عمر، رجل في الخامسة والأربعين، يحدّق في ورقة التحاليل التي قلبت حياته رأسًا على عقب.
“سرطان الدم”، قالها الطبيب بهدوء، لكن وقعها كان كالصاعقة. بدأت رحلة العلاج وسط تحديات لا تُحصى: جلسات مؤلمة، غياب التأمين الصحي، ونظرات الشفقة.
لكن زوجته وابنته كانتا سندًا، تكتبان له كلمات تشجيعية، وترسمان قلوبًا ملوّنة.
بعد عام من الكفاح، أعلن الطبيب أن المرض في حالة خمود.
اليوم، يقف علي أمام طلاب المدارس ومختلف التجمعات، يُحكي قصته، ويحثّهم على الكشف المبكر، ويقول:
“السرطان ليس نهاية، بل بداية لمعركة تستحق أن تُخاض.”
سارة.. لاجئة تُعيد تعريف النجاة
في حملة أكتوبر الوردي في كمبالا العام الماضي، خضعت سارة عمر، لاجئة في الثلاثينات من عمرها، لفحص طوعي.
لم تكن تتوقع أن تكون نتيجة الفحص نقطة تحول في حياتها. حين أخبرها الطبيب بوجود ورم في بداياته، انهارت بالبكاء. لم يكن الخوف من المرض فقط، بل من المجهول: كيف ستواجه السرطان وهي لاجئة؟ من أين ستأتي بتكاليف العلاج؟
سعر الجرعة الواحدة بلغ 600 دولار أميركي. بعد أيام من الانهيار، بدأت سارة تتواصل مع جمعيات محلية، وتلقّت دعمًا نفسيًا، وبدأت جلسات علاج أولية بتمويل جزئي من منظمة إنسانية.
تحولت سارة إلى رمز للتوعية بين اللاجئات، تشارك قصتها في ورشات تثقيفية، وتقول:
“الكشف المبكر أنقذ حياتي. رغم كل شيء، أنا ممتنة.”
ليلى.. أم تكتشف المرض في حملة مدرسية
في مدرسة أساس، حضرت ليلى حسن، أم لطفلين، فعالية توعية عن سرطان الثدي.
بدافع الفضول، خضعت للفحص، لتكتشف ورمًا في المرحلة الثانية.
كانت الصدمة مزدوجة: المرض، والخوف من ترك أطفالها. بدأت رحلة علاجها بدعم من المدرسة والمجتمع، وتحولت لاحقًا إلى متطوعة في حملات التوعية، وتقول:
“لو لم أكن هناك في ذلك اليوم، لكان كل شيء مختلفًا.”
مريم.. الطفلة التي غنّت للشفاء
في أحد أيام الشتاء، لاحظت والدة مريم آدم، طفلتها في الخامسة عشرة، أنها تبكي بشكل غير معتاد. قررت أن تصطحبها إلى الطبيب، وهناك بدأت رحلة غير متوقعة: تشخيص بسرطان الدم الليمفاوي الحاد.
على مدى ثلاث سنوات ونصف، خضعت مريم لعلاج مكثف في مركز الأمل للسرطان.
لكنها كانت ترسم، تضحك، وتغني. أصبحت مصدر إلهام للمرضى الآخرين، ولقّبها الأطباء بـ”روح العنبر”.
تقول والدتها: “كانت ترسم وجوهًا مبتسمة على الجدران، وتقول للمرضى: لا تخافوا، أنا معكم.”
اليوم، مريم في مرحلة التعافي، وتشارك في فعاليات توعية للأطفال، وتحثّ الأهالي على الانتباه لأي تغيّرات جسدية أو سلوكية.
بيان التأثير
يُبرز هذا التحقيق كيف تتحول قصص السرطان في السودان من معاناة فردية إلى مقاومة جماعية. في سياقات هشّة كالفقر واللجوء، تصبح الكلمة أداة علاج، والإعلام منصة للتغيير.
قصة سارة دفعت جمعيات محلية لمراجعة سياسات الدعم، وألهمت لاجئات للفحص الطوعي. أما محمود وعلي، فقد أعادا تعريف القوة بالصمت والتوعية، مؤكدَين أن النجاة ليست جسدية فقط، بل نفسية واجتماعية.
الكشف المبكر يمكن أن يُقلّل من الوفيات بنسبة تصل إلى 50%، ويُخفف التكاليف، خاصة في المراحل الأولى.
الدعم النفسي يُحسّن مناعة المرضى ويُقلّل من الاكتئاب، ويُعزز قدرتهم على التكيّف والالتزام بالعلاج.
في البيئات التي تفتقر إلى الخدمات، تُحدث المبادرات الإعلامية والقيادات النسائية فرقًا ملموسًا في معدلات الكشف والنجاة، وتُعيد تعريف النجاة كحق إنساني لا يُساوم عليه.
في كل قصة، صوتٌ يُقاوم. وفي كل مقاومة، فرصة للنجاة.
الكشف المبكر والتوعية المجتمعية
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يمكن للكشف المبكر أن يُقلّل من وفيات السرطان بنسبة تصل إلى 50%، لأنه يتيح التدخل العلاجي قبل أن يتفاقم المرض.
في المراحل المبكرة، تكون خيارات العلاج أكثر تنوّعًا وأقل تكلفة، وتزيد فرص الشفاء بشكل كبير.
أما في المراحل المتأخرة، فقد تكون تكاليف العلاج أضعاف ما يُنفق في المراحل الأولى، بسبب الحاجة إلى تدخلات معقّدة مثل الجراحة والعلاج الكيميائي المكثّف.
التحوّل النفسي.. نصف العلاج
يشير مختصون في علم النفس الاجتماعي إلى أن أثر الدعم النفسي ليس جانبًا ثانويًا، بل هو ركيزة أساسية في رحلة العلاج.
الدراسات النفسية والطبية تُظهر أن الدعم النفسي يُحسّن من استجابة المرضى للعلاج بنسبة تصل إلى 25%، لأنه يُعزّز مناعة الجسم ويُقلّل من معدلات الاكتئاب والقلق المرتبطة بالمرض.
المرضى الذين يحصلون على دعم نفسي منتظم يكونون أكثر قدرة على التكيّف مع المرض، وأقل عرضة للانسحاب الاجتماعي أو فقدان الأمل.

كسر حاجز الخوف والوصمة
نوّه المختصون إلى أن غياب الدعم النفسي في البيئات الهشّة يُضاعف من معاناة المرضى، ويُضعف قدرتهم على الالتزام بخطط العلاج.
وشدّدوا على أهمية التوعية المجتمعية ودورها في إنقاذ الأرواح، من خلال كسر حاجز الخوف والوصمة، وتحفيز النساء على طلب الفحص، خاصة في البيئات التي تفتقر إلى الخدمات الصحية.
وأوضحوا أن المبادرات التي تُوظّف الإعلام المحلي، والقيادات النسائية، والناجيات أنفسهن، تُحدث فرقًا ملموسًا في معدلات الكشف والنجاة.
من المحرّرة:
هذه القصص ليست مجرد حالات مرضية، بل شهادات حيّة على قدرة الإنسان على المقاومة، وعلى أهمية الإعلام في نقل هذه النماذج إلى الجمهور.
من خلال التوعية، والدعم، والكلمة الصادقة، يمكننا أن نُغيّر نظرة المجتمع للسرطان، ونمنح الأمل لمن يحتاجه. في كل قصة، صوتٌ يُقاوم، وفي كل مقاومة، فرصة للنجاة.


