مقالات

البديل الذي لم يولد.. لماذا تعثّر مشروع القيادة الشرعية في التسعينات؟

مقاربة نقدية في كتاب “الجيش السوداني والسياسة” للكاتب عصام ميرغني (5-7)

بقلم/ عبدالخالق مالك:

إذا كانت معركة 1990 داخل الجيش قد كشفت الوجه الداخلي لصراع التمكين فإن تجربة القيادة الشرعية كشفت الوجه الآخر للصراع خارج الجيش عبر محاولة المعارضة ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي أن تصنع بديلاً عسكرياً يوازن قوة النظام أو يهدده أو على الأقل يجبره على التفاوض.

في التسعينات بدأ المشهد السياسي وكأنه يتحرك على حافة طريقين متوازيين. الأول هو مشروع النظام الذي أعاد تشكيل الجيش من الداخل، والثاني هو مشروع المعارضة التي حاولت بدورها أن تعيد تشكيل جيش معارض في الخارج. لكن بينما نجح مشروع التمكين في خلق شبكة داخل المؤسسة فشل مشروع القيادة الشرعية في خلق قاعدة مشابهة خارجها.

والغريب أن هذا الفصل من تاريخ المعارضة لا يُناقش إلا لماماً. فالحديث دائماً يميل إلى البيانات السياسية والمؤتمرات وقيادات المنفى، بينما الجزء الأخطر كان يتم خلف الكواليس وهو محاولة بناء قوة عسكرية جديدة.

وصف عصام ميرغني هذه المحاولة بأن المشروع بدأ بوعد كبير ثم ضاق تدريجياً حتى انتهى إلى انقسام كامل. والسؤال الذي يستحق النقاش بصراحة هنا هو
لماذا لم تنجح المعارضة السودانية في بناء البديل العسكري الذي طالما بشّر به خطابها السياسي.

بعد انقلاب 1989 خرج عدد من كبار الضباط إلى الخارج. بعضهم كان في مهام رسمية قبل الانقلاب وبعضهم خرج بعده وبعضهم غادر مباشرة بسبب الخلاف السياسي. هؤلاء شكّلوا نواة فكرة مفادها إذا كان النظام قد استولى على الجيش فمن الممكن تأسيس جيش جديد يمثل الشرعية الديمقراطية التي أطاح بها الانقلاب. وهي فكرة جذابة سياسياً ومغريّة نفسياً ومتماسكة نظرياً.

لكن كما حدث في تجارب سابقة الجاذبية النظرية شيء، والقدرة الفعلية على البناء شيء آخر تماماً. التجمع الوطني الديمقراطي تبنّى الفكرة وأعاد صياغتها بوصفها الجناح العسكري للتجمع. لكن في جوهرها ظلت محاولة لإنتاج صورة جيش بديل دون أن تتوفر شروط الجيش الحقيقي.

الفجوة الأكبر كانت واضحة منذ اللحظة الأولى حيث الضباط موجودون والخبرة موجودة والارادة موجودة لكن الجنود غير موجودين. فالقوة التي حملت اسم قوات أنا السودان كانت خليطاً من ضباط كبار بلا قوة تنفيذية تحتهم وشباب مدنيون قليلي التدريب، ودعم متقلب من إريتريا وإثيوبيا يخضع لحسابات السياسة الإقليمية مع تعاون محدود من بعض الفصائل الجنوبية، لكنه تعاون يحدد أولوياته بنفسه لا بأولويات المعارضة الشمالية.
هذا الخليط لم يكن كافياً لبناء جيش، ولا حتى لبناء لواء صغير. كان لحد ما يصلح لقوة عمليات خاصة محدودة الأثر، وهذا ما حدث لاحقاً تحت عنوان العمليات النوعية.

عندما لا تمتلك عدداً كافياً من المقاتلين، ولا قاعدة إمداد ثابتة، ولا مناطق آمنة يصبح الخيار الوحيد هو ضربات خاطفة مثل عمليات خلف خطوط الحكومة وتخريب محدود للبنى اللوجستية لارسال رسائل سياسية أكثر مما هي عسكرية، لكن مثل هذه العمليات كانت قصيرة العمر.
فجهاز الأمن كان في ذروة قوته، والاختراقات الأمنية كانت واسعة، والإمكانات الميدانية لم تكن تسمح بأي تحرك كبير.

ومع مرور الوقت صار المشروع كله يشبه سلسلة محاولات رمزية أكثر منه جيشاً بديلاً يمكن أن يشكل تهديداً استراتيجياً.

لاحقاً انقسمت القيادة الشرعية نفسها وهو الانقسام الذي يصفه الكتاب في عنوان فرعي “الطريق إلى التفرق… الانشطار”، فالمشروع انقسم لأنه كان منذ البداية يعاني من تناقضات مستحيلة التجاوز:
أولاً: صراع على تعريف الشرعية. هل الشرعية هي الحكومة المنتخبة سابقاً؟ أم مجلس التجمع؟ أم القيادة العسكرية في المنفى؟ أم الشرعية الشعبية؟
كل طرف قدّم تعريفه الخاص وبالتالي أصبح الخلاف هو الأمر الوحيد المتفق عليه.
ثانياً: الصراع بين العسكري والسياسي، فقيادات التجمع أرادت قوة ضغط بينما الضباط أرادوا جيشاً حقيقياً له قرار عسكري مستقل. وهاتان الرؤيتان لا تلتقيان.
ثالثاً: الدعم الخارجي غير المتوازن فإريتريا دعمت بعض الأجنحة وإثيوبيا دعمت أجنحة أخرى، والدولتان كان لهما حساباتهما الخاصة تجاه الخرطوم.
رابعاً: غياب الهدف النهائي. هل الهدف إسقاط النظام بالقوة؟ أم الضغط للتفاوض؟ أم الحفاظ على خيار عسكري احتياطي؟
لم يكن هناك جواب ورؤية موحدة، وهذا كفيل بإسقاط أي مشروع عسكري في العالم.

لم يشكّل هذا المشروع بديلاً حقيقياً للنظام، والسبب كان أعمق من قلة السلاح أو ضعف التمويل. فالقيادة الشرعية اصطدمت بحدود الواقع، فلا يمكن أن يوجد جيش بلا قاعدة اجتماعية، وبلا أرض وجنود تمويل طويل المدى وقيادة موحدة وقبل كل ذلك بلا سردية سياسية مقنعة.

النظام آنذاك امتلك كل ذلك، بينما المعارضة امتلكت جزءاً صغيراً منه. والفجوة بين الطرفين كانت أكبر من أن تُردم بالخطاب السياسي وحده. لذلك بقيت القيادة الشرعية مشروعاً طموحاً على الورق ومحدوداً في الميدان، وعرضة للانقسام مع أول اختبار حقيقي.

فشلت القيادة الشرعية ليس لأنها فكرة سيئة بل لأنها فكرة أكبر بكثير من الأدوات التي توفرت لها.
كانت استجابة طبيعية لصدمة انقلاب 1989 لكنها لم تتحول إلى مشروع عسكري قادر على تغيير ميزان القوة.
فهي امتلكت الشرعية الأخلاقية لكنها لم تمتلك القوة المادية.

وبهذا المعنى كانت القيادة الشرعية مرآة لمأزق المعارضة السودانية عموماً المتمثل في مشروع سياسي كبير لكن أدواته أصغر من طموحه. ولأن السياسة لا تعترف بالنوايا بل بالقدرة فقد انتهى المشروع إلى الانشطار تماماً كما جاء في الكتاب وتجاهله كثيرون.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى