السودان في مرمى العواصف الإقليمية.. حين يتكلم البحر الأحمر وتغيب الدولة!

بقلم/ وائل عبدالخالق مالك:
الضربة السعودية التي استهدفت شحنة أسلحة إماراتية في ميناء المكلا وما تبعها من انسحاب إماراتي من اليمن وضعت المنطقة أمام لحظة انكشاف إقليمي حيث تخرج فيها الخلافات المكتومة إلى العلن وتنتقل من غرف التفاوض إلى الموانئ والممرات الحيوية. هنا لا يعود الحدث يمنيًا صرفًا ولا خليجيًا محضًا، بل يصل الحدث وتداعياته مباشرة إلى السودان فالبحر الأحمر لم يعد ممر تجارة فقط بل ساحة نفوذ إقليمية ودولية.
البحر الأحمر أصبح اليوم عقدة أمنية واقتصادية عالمية، أي اضطراب عند ضفتيه ينعكس فورًا على أسعار التأمين وسلاسل الإمداد وتوازنات الطاقة.
حين تتصدع التفاهمات بين القوى التي كانت تضبط إيقاع هذا الممر فإن الفراغ لا يبقى فارغًا، لاعبون كُثُر جاهزون لملئه باسم حماية الملاحة أو الردع أو الاستثمار الأمني.
النتيجة هي ما يعكس واقع اليوم من خلال عسكرة متزايدة لممر يفترض أن يكون اقتصاديًا. وفي هذا المشهد فإن السودان ليس على الهامش، السودان الآن عبارة عن دولة ساحلية بموارد محدودة وحرب مفتوحة. أي اهتزاز في أمن البحر الأحمر يضاعف هشاشتها ويجعلها قابلة للاستخدام كعمق خلفي أو ساحة نفوذ بديلة.
حين تصل الخلافات إلى الموانئ تتحول السياسة إلى أرقام. كلفة التأمين ترتفع والشحن يتباطأ والاستثمارات تعيد حساباتها. الدول التي بنت سرديتها على الاستقرار الاقتصادي تجد نفسها أمام معادلة صعبة هي كيف تُقنع العالم بالأمان بينما الموانئ تُستخدم كأدوات ضغط؟.
بالنسبة للسودان تكون التكلفة مضاعفة. فالبلاد تعاني من اقتصاد منهك أصلًا والموانئ تحتاج استقرار طويل النفس، واستثمارات خليجية قد تتحول من مشاريع تنموية إلى أوراق تفاوض أمنية. في هذه الحالة لا يعود الحديث عن تنمية بل عن سيطرة وتأمين ومن يملك قرار الساحل.
التحولات الاقليمية لا تمثل انهيار تحالفات فقط بقدر ما هي تحول في منطقها. الانتقال من تحالفات شاملة إلى تحالفات حسب الملف واللحظة. فالسعودية تميل إلى منطق الدولة المركزية وتخشى التفكك وتضع الاستقرار طويل الأمد في المقدمة. الإمارات أكثر براغماتية فهي لا تتردد في التعامل مع قوى محلية غير دولية إذا ضمنت لها نفوذًا اقتصاديًا وأمنيًا مباشرًا. هذا التباين قديم لكنه كان مخفي، الجديد فقط أنه خرج إلى العلن. ومع هذا الخروج تدخل المنطقة مرحلة تحالفات أقل ثباتًا وأكثر استعدادًا لاستخدام الساحات الهشة كمساحات اختبار.
السودان بلا شك ساحة هشة وتصلح للاختبار. فالحرب في السودان لا يمكن فهمها بمعزل عن هذا السياق. نفس الأسئلة التي فجّرت الخلاف في اليمن مطروحة لدينا
من يمثل الدولة؟
من يحتكر السلاح؟
وهل الاستقرار يمر عبر الجيوش النظامية أم عبر قوى الأمر الواقع؟
حين تختلف القوى الإقليمية على الإجابة تتحول الدولة الضعيفة إلى ميدان اختبار حيث يتشظي الدعم وتتعدد الوساطات وتطول الحرب ليس لأننا نريدها كسودانيين بل لأن الإقليم لم يحسم خياره بعد.
المشكلة في السودان ليست في غياب الخيارات بل في غياب القرار.
أولًا على السودان أن يخرج نفسه من لعبة المحاور. ويتبنى سياسة لا اصطفاف أعمى ولا عداء مجاني. الحياد هنا ليس ضعفًا بل شرط بقاء.
ثانيًا استعادة احتكار الدولة للعنف شرط لازم. فلا دولة بسلاحين وطالما إن السلاح موزع ومتاح فالخارج سيتعامل مع الفصائل لا مع الحكومة.
ثالثًا لا بد من تحصين البحر الأحمر كملف سيادي لا تفاوضي. فالساحل أصل استراتيجي لا ورقة مساومة.
رابعًا يجب نقل إدارة الملف السوداني من العسكرة إلى السياسة الخارجية فالدبلوماسية اليوم أهم من البيانات العسكرية.
وأخيرًا يجب استعادة السياسة من الداخل فلا حل خارجي لحرب داخلية بلا مشروع وطني جامع.
ملف أمن البحر الأحمر دخل مرحلة حساسة، ولا محالة فإن الاقتصاد الإقليمي سوف يدفع ثمن التسييس، والحقيقة المجردة هي أن التحالفات القديمة لم تعد مسلّمًا بها. فيما يتعلق بالسودان فهو ليس استثناءً بل هو المثال الأوضح على كلفة الخلافات الإقليمية حين تُدار بلا رؤية مشتركة.
في هذا الإقليم حين يختلف الكبار تحترق الدول الهشة أولًا. والسودان للأسف ما لم يستعيد قراره السياسي ويحقق اجماعا وطنيا حقيقيا ويوحد جبهته الداخلية سيظل في قلب هذا الحريق.




